حسام الدين محمد: الضحك مع الموت في مقبرة عامرة بالحياة!

0

خرجت أتريض أنا وزوجتي، في يوم الأحد الأول بعد إعلان الحكومة البريطانية سياسة العزل وإغلاق المحلات، بسبب جائحة كورونا المستجد. سنجعل هذه المشية اليومية عادتنا بعد أن كان عملانا المتعاكسان في الأيام والتوقيت يمنعاننا من اللقاء إلا في آخر الليل، وهو ما جعل الشوارع والحدائق وتأمل الناس والطبيعة، ومناقشة شؤوننا الخاصة وأولادنا وعائلاتنا صعبا ومتقطعا، مثل إشارات مورس البرقيّة.
في قرية «إنغلفيدغرين» القريبة من حديقة وندسور العامة، التي تضم مساحات شجريّة ومائية هائلة، تحوطها مناطق كبيرة عامرة بالسكان، وصلنا خلال تجوالنا إلى المقبرة العامة، فوجدنا سيارات فارهة مصطفة وزحام نساء ورجال وأطفال أنيقين يزورون قبورا. جاؤوا، على الأغلب، ليتذكروا أقاربهم أو أحباءهم الموتى، وليتفكّروا، بسبب الملك كوفيد 19، في احتمال تحوّلهم إلى سكان للمقابر هم أيضا. كانوا يضعون الورود والشموع والأضواء على أضرحة بدا بعضها شديد الفخامة، كأنها قصور صغيرة للموتى، تقلّد أو تستعيد قصورا كبيرة، كانت تحرس المدفونين حين كانوا أحياء، بالبوابات والكاميرات والكلاب الشرسة.
كان مضحكا، في حمى الرعب التي تخيّم على المنطقة، وجود محل واحد لم تمنعه الحكومة من الإقفال، ولم يجزع موظفوه من سطوة الوباء: شركة دفن الموتى، التي – على عكس أغلب الشركات الأخرى – زادت أرباحها وأعمالها، ما أعطى مالكيها وموظفيها سببا إضافيا لرؤية «الجانب المشرق من الحياة»، والعمل الحثيث ليلا ونهارا لتأمين مصالح زبائنها من الموتى.
بعض أولئك الموتى الحصيفين (وبعض الأغبياء؟) قاموا بشراء بوليصة تأمين، على الحياة، تُكسب أقرباءهم كمية كبيرة من المال تساعدهم على تسيير شؤونهم ودفع رهونات عقاراتهم، وربّما – إذا كانوا عاقّين – الصرف على ملذاتهم ورحلاتهم والسخرية من بؤس حسابات أقاربهم المتوفّين. البعض الآخر اشتروا بوليصة تأمين على مصاريف الوفاة، بحيث يحصل الموتى على جنازة فخمة تليق بأشخاص فخمين، فلا يضطر أقاربهم للتقشّف والاقتصاد، أو التأفف من أعباء وفاتهم، فيحافظون بذلك على محبّة أولئك الأقرباء، وعلى هيبتهم خلال جنازاتهم، متابعين بذلك سعي البشر لحيازة الهيبة أو الاحترام في الحياة، وبعد الموت (أو خلال الموت فحسب).

شبح إنكليزي يبيع النعناع المغربيّ

كان سهلا، رغم التراجيديا الهائلة التي تحيط بكل ما يحدث، رؤية المفارقات: التقطت صورا للمقبرة المزدحمة، ولموظفي تنسيق شؤون الحرق والدفن والجنازات، وكذلك صورا للوحات أقواس قزح رسمها أطفال وعلقوها على شبابيك بيوتهم، للتعبير عن تعاطفهم مع أطباء وممرضي وعاملي هيئة الصحة العامة البريطانية، الذين يخاطرون بحيواتهم لإنقاذ حيوات المصابين بالمرض، والتقطت أخيرا صورة لمجموعة أصص زرع يبيعها عجوز في شارعنا، ترك للزبائن التقاط ما يريدون ووضع الثمن في صندوق شفاف ائتمنهم عليه، في استعارة رمزيّة للإحساس بالأمان، وضرورة اقتراب البشر من بعضهم بعضا في أيام الأزمة. اشتريت من مزرعته الصغيرة أصص بقدونس وكوسا ونعناع روسي ومغربي متسائلا: ماذا لو مات، وهل سيقفل أحد الدكانة الافتراضية هذه أم سيترك شبحه يبيع لأشباح زبائن المقبرة؟
وصلنا، في اليوم التالي، ظرف بريد كان قد تأخر لشهور من شركة محاماة، قمنا بتكليفها قبل فترة بتعديل وصيتي الوفاة لي ولزوجتي، ويبدو أن الشركة أرادت أن تبرئ ذمّتها من كونها قامت بالواجب قبل أن نتوفّى بالوباء، وبذلك استلمنا نسختين جديدتين منقحتين صرت أستخدمهما، لسماكتهما، لأضع كأس الشاي الساخن عليهما كي لا أؤذي، بحرارة الكأس، جسد الطاولة الدمشقية المزينة بالصدف، الآتية من قرية جوبر في جوار دمشق، احتراما لأرواح صانعيها الذين ربما جرفتهم آلة الموت السورية، في تفريعة مستلهمة من بيت المعرّي الذي يريد تخفيف الوطء على الأرض، لأنها مصنوعة من أجساد البشر الموتى.

رغم أن الخوف من الموت هو غريزة طبيعية، وأن المخاوف تُعدي كما الأمراض، فلابد أن لدى البشر دوافع بيولوجية قويّة تدفعهم للاعتقاد بأنهم لن يموتوا (الآن)، وأن الموت يتعرّض لأشخاص آخرين غيرهم، وحتى في ظل أوبئة مثل كورونا (وقبله الطاعون والكوليرا وغيرها) أتصوّر أن كثيرين ظنّوا أنهم كانوا محصّنين، ومن خلال أشكال السخرية من الساسة والنخب والعامّة والأوبئة، التي ساعدت وسائط التواصل الاجتماعي على نشرها، شارك جزء كبير من البشر في السخرية من الموت بشكل أو بآخر، واشترك في ذلك من اتخذ موقفا دينيّا قدريّا، مستعدّا للاستسلام لمصيره، أو من رفع موقفا فلسفيا متعاليا على مشهدية ملاك الموت وهو يقترب.
الأكيد أيضا، أن غالبية من تيقنوا أن المرض أصابهم، أو خطف حبيبا أو طفلا لهم، جزعوا شديد الجزع وانقلبت ديناميّة الإحساس بالحصانة لديهم إلى إحساس بقلّة الشأن والمهانة والضعف، ورغم انفضاض الناس عن الاجتماع، فقد شهدت بريطانيا، وهي بلد شديد العلمنة مقارنة بأمريكا على سبيل المثال، ارتفاعا كبيرا في الأنشطة الدينية، فذكرت «بي بي سي» أن 45% من البريطانيين شاركوا في صلوات خلال الأزمة.
لكن ماذا عن الذين يذهبون إلى الموت بأنفسهم؟
اتصلت زوجتي بصديقة مغربيّة قبل أيام وأخبرتها أن ابنتها عاملة الإسعاف الشجاعة، لم تتلقّ أي شكل من أشكال الدعم الحكومي، فلا راتبها زاد، ولا ساهمت الحكومة في تأمينها صحيا، ووقايتها من المرض بتقديم عناصر الحماية، ولكنني لا أتحدّث فقط عن الأطباء والممرضين، الذين لم توفّر لهم أغلب الدول، غنيّها وفقيرها، ما يكفي من الحماية، ولا حتى عن الجنود الذين يقاتلون من أجل عقيدة، أو لأن هذه مهنتهم فحسب، بل أتحدّث عن الرجال والنساء الشجعان الذين يضحّون بأرواحهم لاقتناعهم بعقيدة سياسية أو دينية أو حقوقية.

لماذا لا تنقرض الشجاعة؟

تساءلت إحدى الأنثروبولوجيات مرّة عن كيفيّة انتقال جينات الشجاعة والموت من أجل الآخرين من جيل لآخر، إذا كان الشجعان هم أول من يموتون في المعارك، وهو ما يفترض أن «ينقرض» أصحاب هذا الجين العجيب مع الموت الكثيف لحامليه في المعارك والحروب والقضايا العامّة، واعتقادي الشخصي أن هذا الجين موجود لدى الجميع، فهو أحد أسباب استمرار الكائنات الحيّة والبشر خصوصا، لكنّ أسباب ظهوره تختلف، وتبدأ من الرغبة في البقاء، وهي غريزة تفرض نفسها حتى على الجبناء، فتفرض عليهم الدفاع عن النفس والزوجة والأبناء، ثم تتوسع تجسداتها لتضم الأرض والوطن والقومية والدين… وصولا إلى الدفاع عن الإنسانية والكائنات الحيّة والكوكب الذي نعيش عليه، كما تفعل بضع منظمات عالمية.
تساهم الملمّات الكبرى في الكشف عن تصدّعات كبرى في مسيرة الحضارة البشريّة، وفي حالتها الأخيرة غير المسبوقة بانتشارها وتغطيتها مع كوفيد – 19، وُضعت المقدّسات الدينية والسياسية جميعا تحت الامتحان، وتصعّدت رغبة البقاء، التي ساهمت ببقاء الجنس البشري وارتقائه، إلى أشكال من الاختباء الهائل والانغلاق على الذات، بحيث انشحنت مشاعر الفرز والنبذ والتمييز والعنصريّة ولوم الآخرين، ليس على أسس دينية وقومية ومحلّية وحسب، بل كذلك ضمن المجتمعات نفسها، بحيث أصبح الضعفاء والمسنّون والمشتبه في مرضهم، وحتى الأطباء والممرضون، ضحايا للتحريض والاعتداء من قبل سلطات ودول وجماعات وأفراد. من جهة أخرى، فإن الملمّات الكبرى، كتحوّلات المناخ والأوبئة والحروب الأهليّة والعالمية، تعلن أيضا عن انتهاء حقب تاريخية بأكملها، وتفسح الطريق لتغيّرات هائلة، تمكننا إذا استطعنا وعي تباشيرها الأولى، من التكيّف المتدرّج، ومحاولة الملاحة في أجوائها العاصفة، إذا لم يكن من أجل البقاء فعلى الأقل كي لا نكون ضحايا لا يتذكرهم أحد.

*المصدر: القدس العربي

ترك الرد

Please enter your comment!
Please enter your name here