متى كان للثعالب مملكة، غير تلك الأوكار التي لا تكاد تجدها؟. ممالك الثعالب
الاستبداد والفساد، أيهما أسبق في سورية، البيضة أم الدجاجة؟، وأيهما أسبق في الخلق؟.
إلاّ في سورية فإن الصورة هي الأكثر وضوحاً وجلاء، الفساد أولاً، الفساد أسبق، الفساد هو من أنجب الاستبداد.
قبل حكم البعث كانت قدسيّة القانون مصانة، بحيث لايستطيع أحد أن يفكّر بالاقتراب منها ولا حتى في أحلامه، المال العام هو مال الشعب، مال الدولة، والموظفون هم عمال وأجرَاء يقومون بخدمة الشعب والدولة عبر ممارستهم لوظائفهم، في ذلك الزمان غير البعيد كان هناك برلمان منتخب يقوم بدوره الحقيقي، برقابة حسن إنفاق المال العام وسلامة إنفاقه، وكذلك يراقب هذا البرلمان جباية المال العام ويعرف كل قرش سوري دخل إلى خزينة الدولة، ويتتبّعه أين ذهب وكيف أُنفق.
بداية، قام حزب البعث، وقبل وصول حافظ بسنتين أو أكثر، بنشر الفساد المستتر بين كبار المسؤولين، وبمجيء حافظ الجائع النهم والذي جاء بكل الجائعين أمثاله، والمتعطشين لسفك دماء وأموال الدولة والشعب وأطلق أيديهم في عمليات الاختلاس والاعتداء على المال العام، قام بنزع سلطة رقابة مال الدولة من يد البرلمان وقضى على (ديوان المحاسبات) الذي كان يتبع للبرلمان باستقلالية مطلقة، وكان باستقلاليته قد سبق الولايات المتّحدة والكونغرس ومكتب المساءلة الأميركي، جاء بما يسمّى مجلس الشعب، وجاء بقوائم (أ) و(ب)، وزجّ من خلالها بحثالات المجتمع السوري من الجائعين والمحرومين، وممن لا أصل لهم ولا تاريخ لآبائهم يثنيهم عن أن يكون دورهم فقط، بالتصفيق والهتاف والتصوير والرقص والدبك.
لا سلطة رقابية ولا قدرة على معرفة، ماذا يفعل رئيس بلدية درجة رابعة بما يخصص له من أموال الموازنة، ولا بما يجمعه من رسوم وجباية.
كبرت رويداً رويداً تلك القوى، وانزوت أجهزة المخابرات تعمل في الظلام على اختيار الاكثر سوءاً من أفراد الشعب (الكادح)، ممن تجمع المعلومات عنهم ويتمّ تصنيفهم (بالأكثر سفالة) لتولّيهم مناصب شتّى في دولة حافظ (سورية الأسد).
ونمت تلك الطحالب والأشنيات، وكبرت كلاب حافظ التي رباها ورعاها بعناية، كبرت وتغوّلت أجهزة المخابرات، وجاء محمد مخلوف، ومن ثم ابنه رامي، بهجت سليمان وأولاده، بدأ الموت يتنفس في الشوارع وينقضّ على كلّ من يفتح فمه أو حتى من يصغي بأذنيه، كيف لاتنفجر الثورة وقد وصل الحال الى ماوصل إليه؟. ممالك الثعالب
طائفة الفساد:
لم يكن للفساد طائفة _وإن تغوّلت طائفة الأسد_ إلا أنّ الطائفة المسحوقة (الشعب)، شاركت بجزء مهم منها في المشاركة في هذا الفساد، عملت كوكلاء وكشركاء للأسد ومنظومته، مخطئ من يقول أنّ للفساد ديناً أو مذهباً او طائفة، تلك الصيحات التي أطلقها رجال النظام بتأليه بشار واعتباره هو آلهتهم التي تعبد في الارض، فقد قابلها في الطرف الآخر نفس الصيحات التي دعت الى تنزيه الله وحده ولكن في الحقيقة تبيّن أنّ لها نفس المنهج (السرقة وأكل مال اليتامى والفقراء).
مزارع الثعالب:
في ذات التاريخ من عهد الفساد الموروث، وانطلاقاً من عنوان عريض جاء به بشار ليوحي للشعب أنّه الحاكم الأكثر صلاحاً، فقد رفع شعار مكافحة الفساد، في ذلك الزمان وفي مطلع هذا القرن، كنت قد كُلِّفت بإدارة مشروع لمكافحة البطالة في محافظة الرقة، حدث أن واجهت قصة ذات دلالة، جاءني أحدهم يشكو من البطالة ويحمل فكرة مشروع يريد تنفيذه فيما لو قمنا بتمويله ورعايته، كان مشروعه يقوم على تربية الأرانب بأعداد ضخمة، استفهمت منه عن السوق المفترضة لتصريف ذلك الإنتاج الضخم من الأرانب، فقال: “أبيعها في دمشق، أصلا أنا كنت أبيع الأرانب في سوق المرجة بدمشق، وقد توسط لي عندكم خبير مصري يعمل معكم كان يشتري الأرانب مني”، فعلاً قمت بالموافقة على المشروع وإحالته إلى المصرف الزراعي لتمويله والإشراف على تنفيذ المشروع. في اليوم التالي، جاءني مدير المصرف ليقول لي: “أستاذ أنا أستقيل ولا أقدّم التمويل لهذا المشروع”، قلت له: لماذا؟
قال: “أنا وكل الكادر الوظيفي لدينا، لانستطيع تحصيل الدين من مزارعي القمح، علماً أنّ القمح يحصد ويكدّس في الأرض، ولكن المزارعين ينجحوا بتهريبه وبيعه ولايسددون للمصرف قيمة القروض التي حصلوا عليها لتمويل زراعتهم، فكيف تريد مني أن أوافق على مزرعة أرانب؟، إذا وافقتم لي على توظيف (الحصاني) الثعالب، لتمسك بهذه الأرانب، سأوافق حينها على إعطاء هذا القرض”. ضحكت وقلت له بيدك الحق، لك أن تعتذر وسننهي هذا الموضوع.
في هذين المقلبين، خروج الناس في سورية ضد الفساد، وأملاً بتحقيق شروط حياتهم الكريمة التي سحقتها منظومة الفساد (النظام)، استولى على جانب المعارضة أولئك الثعالب التي اجتمعت على وليمة الدم السوري الطازج الحار والطاهر لتعمل به لعقاً، ماذا يفعل الشعب أمام كل هذا؟، كيف يستطيع أن يستعيد توازنه وتفكيره بهدوء ليعرف كيف يتلمّس طريقه؟، كيف يستطيع أن يقاوم كل تلك الضباع والثعالب، ويضع نصب عينيه تحقيق أهداف ثورته، تلك الثورة التي لم يكن في حسابات أيّ من أبنائها إراقة دم سوري واحد؟.
هل إذا رحل بشار ومخلوف سينتهي ذلك الفساد، ويعم الرخاء والسلم؟، أليس أولئك القادمون من وراء البحار هم أكثر شراهة وجوعاً لشرب هذا الدم وماتبقى منه في العروق؟، كيف ستحمون أنفسكم من ذلك النسغ المتجدّد من ولادة الثعالب؟. ممالك الثعالب
*المصدر: ليفانت