سعيد خطيبي: نوري الجراح شاهداً على «طُروادة» الجديدة

0

لم تعد طروادة مدينة يترصدها عدو، بل يستملكها، لم تقع في فخ واحد، بل هي مدينة فخاخ، لم تخطف شخصاً واحداً بل شعباً، لقد انزاحت إلى الشرق قليلاً، وبات اسمها دمشق، ضاق الحصار عليها وتشابهت أيامها، لا تنتظر شاعراً يرأف بحالها، ويستفيق من خموله فيكتب عنها، بل لها شعراؤها، يدونون يوميات الخوف والهلع، الذي يحوم على رأسها، ونوري الجراح (1956) واحد منهم، أحيا الميثولوجيا الإغريقية، كي يبصر زمانه الحالي في ديوان «لا حرب في طروادة» منشورات المتوسط 2019.
حرر أسرى الصمت وقص بعضاً من حكاياتهم، كتب عن وطأة الانتظار وجحيم من يرى العالم ينهار من حوله ولا سبيل له في الفكاك. في ديوانه الأخير يُسقِط الجراح الأسطورة على الواقع، لا يلقي بالاً لخصومات الآلهة والملوك وشقاقهم، بل يستأنس بألم ومآلات الذين مشت الحرب على ظهورهم، الذين يعلمون أن ما يُعايشونه أسوأ من حصار طروادة القديمة، فالعدو لم يفصح عن هدف له، وكل واحد من المُحاصرين يحس أن الحصان المفخخ، لا ينوي سوى الاقتناص منه أو نفيه خارج المدينة.
«لكن مسوخاً ولدتهم أمهاتهم في جرار سوداء/ نزلوا إلى المدن/ وأضرموا النار في الأسرة»، كتب الجراح. إنها نار عتيقة، تقدمت في السن بينما المسوخ زادت شباباً، ونتجت عنها نيران أخرى مجاورة، ليست ناراً نستدفئ بها أو تضيء ما حولها، بل هي نار تتعقب خطى الراغبين في النجاة، ليست ناراً مثل نار غيرة الأمير باريس على هيلين، فاختطفها وعرض طروادة لحصار السنوات العشر، إنها نار متحركة تستبق التاريخ، وقد حولت دمشق إلى دخان أو تكاد، لم يهتم آلهة المدينة لها، فهو مشغولون بمآربهم مثلما انشغل آلهة الإغريق عن هيلين وحولوها من أجمل نساء الكون إلى مجرد أسيرة.
في تلك النار التي تطوق المدينة، بل تحضنها كما لو أنها صارت من الروتين «أنا/ صخرة تتدحرج في وادٍ سحيق/ ولا تصل إلى الأرض»، يضيف، كما لو أنه موقن أن لا خيار له سوى التدحرج، مثلما تدحرج أهل طروادة من سلم إلى فظائع، بدون أن يغفل الشاعر في دعوته إخوته ألا يسرفوا في الأمنيات بأن ينتهي الحصار، وألا يسرف الدمشقيون في انتظار الوصول إلى الخاتمة، فالطريق بعيدة، وقد يتنبأ الكهنة بتعرجاتها، لكن لا حظ لهم في التنبؤ بمخرج لها. إن هذا الشعور بأن شيئا سوف يحصل، لكن لا نعرف متى يثير في أنفسهم سأماً، إنه إحساس يتعارض مع نشوة العيش، ومضاد للحق في الحياة. إنهم يعلمون أنهم لا يسيرون وحدهم في الطريق، بل في مواجهة وحش، أو ربما وحوش، ولا سبيل لهم في تجاوزه سوى الانتظار، أن يفعلوا مثلما فعل الناس في طروادة، أن يقاوموا الشدائد بالانتظار، مع أنهم غير مقتنعين بالأسباب، لقد ورطهم الأمير باريس، مثلما ورط الموت الدمشقيين، وصار لزاماً عليهم أن يحفظوا أبوابهم مؤصدة، مثلما أوصد الحرس باب طروادة، مع فارق أن المدينة الحالية قد تسرب إليها عزرائيل، والثانية منت نفسها بنجاة، وظلت كذلك توصى نفسها بنهاية أخف قبحاً.

يُعيد نوري الجراح في ديوانه الأخير فتح أبواب اليونان القديمة، مثلما تُفتح أبواب سوريا، يستقر في طروادة شاهداً على حربها، كما لو أنه ينظر إلى دمشق وقد طال حصارها وخوفها من كل الجنبات. يستعير أخيل من إلياذة هوميروس، ويبعثه بطلاً معاصراً، كما أراد دائماً أن يكون، خالداً في الأزمنة، شاباً لا يهرم، ومحارباً لا يخسر. يستدرجه إلى «لا حرب في طروادة» كي يستمر في كتابة الأسطورة التي شرع فيها في الميثولوجيا الإغريقية، يدفعه في نصه مرغماً، لا يوفر له سبباً في التراجع، ولا حجة كي يتخلى عن موقعه، يثير فيه كل أسباب الانتقام قصد أن يشهد على الصدمة السورية، ويصطف إلى جانبها، مثلما شهد صدمة الطرواديين. يتحول نوري الجراح نفسه مقاتلاً ضد النسيان، يصير جندياً يرفض أن تتناثر ذاكرة الناس وأن لا ينسوا في شتاتهم من أين جاؤوا أو كيف وصلوا إلى ما وصلوا إليه، ينوب عن هوميروس ويُحاكيه في كتابة الملحمة التي تجري الآن، لا يكتب نصه قصد إشباع رغبته في الكتابة، بل كي يكون مرافعاً على زمانه المتحول، كي لا تضيع منه تفاصيل، مثلما ضاعت تفاصيل من هوميروس وهو يكتب عن طروادة الإغريقية، يستعجل الجراح الإمساك باللحظة التي يعيشها ويكتب دفاعًا عن أسرى الانتظار مثلما دافع أخيل عن فتاته واعتزل الحرب من أجلها.
«أفتح بابي وأجمع حطامي في كيس ملون»، شيئاً فشيئاً، ومع التقدم في الديون يخرج الشاعر من جحره، يطل على العالم بارتياب، محاولاً التأكد من أنه لا يزال حياً، وأن المدينة لم تنهر كما أراد لها من يحاصرونها، لا يجمع فقط حطاماً، بل أيضاً أملاً، يبعثه من مرقده، بل يشتد نضاله وخصامه في إيقاظه، فهو يعلم أن الأمل يخفف من الألم، إنه مداواة في هذا التاريخ الدمشقي الدامي، يعلم أن كل راغب في شيء ولم يصبُ إليه، بإمكانه أن يمسك بالأمل بكلتا يديه كي لا تخمد رغبته في العيش، يسعى إلى توحيد الناس بأن يشير لهم بعصا إلى جهة الأمل، فهو طوق نجاة لهم، وحصانة من الخوف الذي يتربص بهم، بدون أن يغمض عينيه عن خطورة الأمل، فمن كثرة الإيمان به قد يُصاب صاحبه بالجنون، لكن أليس الجنون أهون من المأساة التي تلقي ظلالها على دمشق؟ أليس الجنون عمودا من أعمدة الحياة، وأقل وطأة من أن ننظر إلى حرب الإخوة ونعجز عن مدّ يد تفصل بينهم وتجنبهم ما حلّ بهم؟ لقد كتب نوري الجراح ديوانه مثل رجل نذر نفسه للعنة، وهو يعلم ألا أحد سوف يُجاوره في الفلك الذي دعا إليه أناسه. «قصائدي بنات يتيمات كبرن سريعاً، وهربن من البيت»، وظل وحيداً يكرر كل مرة محاولات إنقاذ طروادة الجديدة من الفخاخ التي تدنو منها، وهو يردد في قلبه: «ما أبعد الطريق إلى دمشق».

*المصدر: القدس العربي

ترك الرد

Please enter your comment!
Please enter your name here