في يومنا هذا لم تعد الرواية ذلك العالم الحكائي المنسجم مع نفسه، أو مع مرجعياته الواقعية والافتراضية والميتافيزيقية، بل تعدت هذه الحدود الراديكالية التقليدية، وانفتحت بقوة ناعمة، نحو تأسيس طويل الأمد لهذا النوع السردي، معتمدة في ذلك على التداخل مع مختلف الأنواع الفنية والكتابية، من خلال الإجهاز على خرافة نقاء النوع الأدبي، ما سمح لها بالاستمرار والتأثير قرناً بعدَ آخر.
ولعلّ من المفارقات الساخرة – على المستوى التاريخي – في تدوين الرواية ورحلتها، أن مسألة اليقين السردي، والتأكيد على ثبات الشكل التقليدي، بقيت في جهة معارضة للايقين الأيديولوجي منذ «دون كيخوته» مروراً بمحاولات كافكا، وصولاً إلى رواية ما بعد الحداثة. هذه المفارقة عملت رواية ما بعد الحداثة على التعامل معها، ولكن بوضع انقلابي، يضمن للايقين الفكري ما يشابهه على المستوى المعماري والمتمثل باللايقين السردي. إن ما يميّز مرحلة ما بعد الحداثة في الرواية العربية المعاصرة، تلك الكتابات الجريئة والمحاولات الواعية التي أسست لما يسمى بتقويض المركزيات، على المستويين التقاني والفكري، ولا بدّ هنا من الإشارة إلى أنّ عملية تقويض المركزيات وهدمها، وإعادة إنتاجها من جديد، لم تكن قضية عبثية – وإن كانت بعض الإشارات في النصوص تدل على ذلك – بل هي عملية فكرية واعية لها جذورها، التي تمتد إلى كتابات العقد الستيني، وكذلك لها دوافعها الإنسانية والتاريخية والاجتماعية وحتى الفنية، ما يجعل من هذه التجربة تعبيراً جمالياً عن قضايا إنسانية، فالشكل الفني هنا يعكس إلى حد ما التجربة الحياتية في أغلب تفصيلاتها.
في رواية «بوز الكلب» للروائي العراقي عباس عبد جاسم، الصادرة عن مركز تنوير ـ بغداد؛ نجد انّ المؤلف لا يميل إلى التجريب السردي بوصفه أداة كتابية في عالم ما بعد الحداثة، وهو ينقضُّ على كلاسيكيات الحداثة السردية بكل أشكالها وأهدافها، وربما حتى سلوكياتها، بل يعمد إلى ذلك التجريب بوصفه (يقيناً) إنسانياً يشتق منه في رحلته السردية ولعبته الحكائية ما يمكن أن نسميه باللايقين السردي، وهو يشكل مدونة سردية متعدِّدة الوجوه في طرحها لأسئلة ذات طابع إنساني وجمالي في الوقت نفسه.
تأخذ هذه الرواية شكلاً تعبيرياً يتداخل فيه السردي مع الشعري والسينمائي، وصولاً إلى الخطاطة التوضيحية/ الترميزية. كل هذه الأشكال تنصهر في بوتقة/ متاهة حكائية تتعامل مع القارئ من منطلق الوعي أولاً والبعد الإنساني ثانياً. من هذه المنطلقات، يبدو لنا أن فكرة تقويض المركزيات مهيمنة على كتابات عباس عبد جاسم، على المستويين النقدي والإبداعي، وهو يتخذ منها منطلقاً لتحرير مقولاته بأشكالها المختلفة وأهدافها المتنوعة.
في رواية «بوز الكلب» يتخذ المؤلف من مقولة اللايقين السردي بؤرة محورية وهو يؤسِّس لجماليات تقويض المركزيات والثوابت السردية – البنيات السردية (الكبرى) من تسلسل حكائي وبطولة مركزية ومحدودوية فضاء تهتز في هذا النص الروائي، ما يستدعي من الكاتب أن يستعين بأكثر من نمط كتابي، لتعزيز الفكرة والعمل على إيصالها بطرائق مختلفة. التداخل بين الخطابين السردي والشعري، وكذلك اندماج الأيديولوجي في السردي، ليس بالأمر الجديد في المتون الروائية، لكن تعزيز ذلك ببعض العتبات النصية المتنوعة، وكذلك ما يسمى بالخطاطات الترسيمية التي تحيل إلى السيميائيات التأويلية، شكّل منعطفاً حاسماً في بناء وتشكيل النص السردي.
وكما أسلفنا في القول، فإن الرواية ما هي إلا متاهة فكرية/ حكائية تبحث في محتواها السطحي في جريمة قتل واختفاء مجموعة من الوثائق، مع الإشارات الواضحة إلى حزب وأفكار وغول سلطوي، أما في المستوى العميق، فإن الأمر مختلف تماماً، فكسر النمط السردي المعتاد وإيقاظ القارئ على لانمطية جديدة، هي المرتكزات الأساسية في بناء النص، ويأتي ذلك من خلال الاعتماد على تصديرات ذاتية وغيرية، تلامس المتن السردي في مقولاته الرئيسة وتتقاطع معه كذلك. بما يضمن للقارئ فرصة حقيقية لمغادرة وهم منطقية العالم والعلاقات التي تحكمه، إلى حقيقة فوضى العالم وتشوّه العلاقات المتحكِّمة فيه، وإمكانية محاكاته من خلال نص سردي يعبر عنه وعن إنسانية هذه المرحلة.
تتعاضد العتبات النصية في هذه الرواية، على الرغم من مفارقتها لمرجعياتها اللغوية والتاريخية والفنية، وفي بعض الأحيان مطابقتها، كما في المقتبس الافتتاحي للرواية والمنقول من كتب التراث، الذي يلخص المقولات الفكرية للنص، وهو يتحدث عن استمرارية الجوع والفقر والخوف والجهل، ضمن نظام اجتماعي سياسي يعيد إنتاج نفسه بطريقة دورية مقيتة. ولكن يبدو أن الإشارة المقتبسة من ميلان كونديرا- المفكر والناقد والروائي المعاصر- هي الأكثر فعالية في متن الرواية وشكلها وطريقة عرضها، من حيث اشتغالها على مفاهيم متعدِّدة ومتنوعة ومتناقضة من أهمها، مفهوم ما بعد السرد، الذي يؤسس- حتماً- لمفهوم اللايقين السردي، حيث الهروب من مركزية التاريخ الرسمي وأكاذيبه إلى نسبية الحدث السردي، وبذلك يستحضر عباس عبد جاسم مقولة ميلان كونديرا في أن (الرواية تحاكي نفسها) تعبيرياً وفكرياً، من حيث محاكاة الفوضى الخارجية بسياقاتها التاريخية والاجتماعية، من خلال الفوضى الداخلية (الجمالية) للنص المعتمدة على تداخل الأنساق الفنية والكتابية المتعدِّدة. فيبرز النسق الشعري بوصفه تعبيراً جمالياً يكمل المادة الحكائية، رغم مادته الشعرية، ويتعمَّد المؤلف بتسميته (قطعاً) وهو مدرك لحقيقة القطع سردياً وفكرياً، لذلك يختار عنواناً، أو عناوين تحاكي وتناقض المتن السردي مثل «حكاية بأخطاء التاريخ».
أما النسق الكتابي الثالث، الذي يشتغل داخل المتن الروائي فهو الخطاطة، وهي أقرب إلى العلامات بمفهوم بيرس، من حيث تأكيدها على البعد الأيقوني للكلمة، وتأخذ هذه الخطاطات اتجاهين مختلفين تماماً، إلى حدّ التنافر ما بين الوجه التوضيحي والوجه الإبهامي، وهذه قصدية واضحة تبناها المؤلف.
«بوز الكلب» رواية تسير في أكثر من اتجاه، فهي تحاكم التاريخ الرسمي (ما تبعثر من بدائع الزهور)، وفي الوقت نفسه تتكلم عن الخراب الدوري في أرض دجلة والفرات، وهي رواية تنبؤية تقرأ المستقبل القاتم، وتعبِّر عن حيرة الإنسان وفشله في الدفاع عن آدميته .
المصدر: القدس العربي