حسام الدين محمد: حقبة العزلة.. في حاجة الأرض للتخلص من «المحتلّين»!

0

لم يتم تدمير العالم الطبيعي بفعل الرأسمالية العالمية، والتصنيع و»الحضارة الغربية»، فهذه تفصيلات على الحبكة الأساسية التي هي تطور أحد الكائنات العليا (المسمى «الإنسان الحكيم») تطورا نوعيّا استثنائيا، وهو التطور الذي نصفه بـ «التقدم» البشري، منذ ما قبل التاريخ المكتوب حتى الآن، وقد أدى هذا التقدّم الإنساني إلى تدمير هائل للبيئة الطبيعية لكل مخلوقات كوكب الأرض.
حسب ريغ موريسون، في كتابه «الأوهام الفخورة للإنسانية وقوانين الطبيعة»، فإن أحد أهم مظاهر هذه التقدم الذي لا يمكن صد أثره، أن عدد أفراد الجنس البشري صار ضخما جدا بطريقة لن يستطيع كوكب الأرض أن يحتملها من دون تداعيات كارثية.
وحتى لو حصل تراجع في معدل الولادات العالمية، وثبت معدل وفاة مرتفع للبشر بسبب المجاعات والأمراض والإبادات، فإن عدد سكان العالم سيزيد مليارا ومئتي مليون (على الأقل) مع حلول عام 2050، ولا يمكن، برأيه، للأرض أن تحتمل هذا العدد، إلا إذا تم التخلص من الحياة البرية، وتم تحويل الغابة المطرية إلى صحارى، وسمحت الهندسة الجينية بإنتاج محصولات من التربة الرقيقة، وحينها سيكون البشر قد صنعوا حقبة جيولوجية جديدة: حقبة العزلة.

هل يستطيع البشر القضاء على الأرض؟

في هذه الحقبة «سيبقى فيها القليل من الكائنات الأخرى على الأرض باستثنائهم، والبيئة المصطنعة التي تبقيهم أحياء»… وبالتالي، فإما أن «تتمكن آليات إعادة الضبط من جعل الكوكب أقلّ سكانا، أو أن العوارض الجانبية لفعاليات البشر ستجعلهم أقلّ، وستوقف النمو الحالي في عددهم».
يقترح جيمس لوفلوك، في «العلم العملي لعلاج الكوكب»، أربع نتائج لانتشار الإنسان: دمار الجنس البشري، أو حصول التهاب مزمن لديه، أو دمار البيئة المضيفة (الأرض)، أو التكافل: قيام علاقة قابلة للاستمرار بين المضيف (كوكب الأرض) والمحتلّ (الجنس البشري). النتيجة الرابعة هي الأقل احتمالا، في نظر لوفلوك، الذي يؤكد، من جهة أخرى، أن سكان الأرض من البشر لا يستطيعون قتل الحياة على الكوكب.
يرى عدد مهم من العلماء أن التغير المناخي سيمحو أو سيؤثر بشكل كبير على أقاليم ساحلية ومدن مأهولة فيها (في بنغلادش والفلبين والإمارات واليمن ونيجيريا وهايتي)، وسيؤدي إلى فشل زراعي في بلدان أخرى، ناشرا الكوارث لمليارات البشر، قبل نهاية القرن الحالي.

الإيمان بالعلم هو إيمان ديني؟

من المؤكد إذن أن أعدادا أكبر ستولد من البشر وستواجه بيئات أقل ترحيبا، وقد يكون هذا التغيير المناخي آليّة يمكن فيها للكوكب أن يتخفف فيها من «عبء» البشر، الذين يتزايدون فيما تنقص الكائنات الأخرى، وأحد أعراض هذا التغير المناخي نشوء نماذج جديدة من الأمراض، فأجسادنا هي مجتمعات للبكتيريا مرتبطة بشكل وثيق مع محيط حيوي بكتيري بشكل كبير، وبالتالي ستكون علوم الأوبئة والأمراض، هي الأدلة الأفضل لمستقبلنا أكثر من أي شيء آخر.
يصرّ «الإنسانيون»، على ما يقول جون غراي، الفيلسوف البريطاني، الذي ناقش أغلب هذه القضايا في كتابه «كلاب القش: البشر وحيوانات أخرى»، على أن البشر ليسوا مثل الحيوانات الأخرى على الأرض، وأننا باستخدام معارفنا نستطيع السيطرة على البيئة وأن جنسنا سيزدهر كما لم يحصل من قبل، وهو يعتبر أن إيمان الإنسانيين الإطلاقي بالعلم، هو إيمان ديني بامتياز: الخلاص مفتوح للجميع، أي أنه تفريع علماني للإيمان المسيحي.
ويرى مرسيا إلياد، عالم الأديان المجري الشهير، أن مجمل الأفكار الأيديولوجية الهائلة التأثير في عصورنا الحديثة، لفلسفة كالماركسية، التي تحتفل أشد احتفال بكونها علميّة، كفكرة الوصول إلى المجتمع الشيوعي، هي أفكار دينية. غير أن غراي يرى أن الفلاسفة الحديثين، وعبر قرنين من الزمن، ورغم محاولتهم هز الأركان الأساسية للفكر الديني (المسيحي خصوصا)، فإنهم لم يصلوا إلى هز الركن الأساسي لهذا الفكر، وهو الاعتقاد أن البشر يختلفون عن كل الحيوانات الأخرى، وأن الفلسفة تقنعت لتخرج نزعة دينية جديدة تحت أفكار التقدم والتنوير.

فكرة التقدم المستمر للجنس الإنساني هي أيضا فكرة دينية أيضا، فرغم أن هذا أمر غير قابل للاحتمال لدى «الإنسانيين»، فلا شيء في العالم الذي نعيشه، حسب داروين، يدعى تقدما، وكل ما فعلته الإنسانية الحديثة هي أنها أعطت فكرة المسيحية (والأديان السماوية الأخرى) بأن البشر مختلفون عن بقية الحيوانات الأخرى، عقدا جديدا للحياة.

من كوفيد 19 إلى ترامب!

تكتسب هذه الأفكار أهمّية كبرى في ظل الحدث الطاغي الراهن وهو التداعيات الخطيرة لانتشار وباء كوفيد 19، الذي يعطي مثالا كبيرا عن طريقة عمل هذه الفلسفة «الطبيعية» التي يطرحها الكتاب. تعتبر الأرض، حسب نظرية «غايا»، نظاما يعيد ترتيب نفسه، وسلوكها يشبه سلوك الكائنات العضوية، ويستخدم غراي، في الكتاب الذي صدر عام 2002، ويا للمصادفة، مثالا من الصين، عبر أحد الطقوس التاويّة، الديانة الطبيعية القديمة، حيث يقدّم البشر كلابا من القش لآلهتهم، وبعد انتهاء الطقس يقومون بدوسها ورميها، فالسماء والأرض، حسب هذه الطقوس، تتعامل مع المخلوقات، كما لو كانت كلابا من القشّ يمكن دوسها والتخلص منها.
رغم تركيز الكتاب على نقد أفكار التقدم الإنسانية، وتفكيك الفلسفات الغربية، عبر الكشف عن علاقتها غير المنقطعة أو المقنعة بالفكر الديني، بدءا من سقراط حتى باسكال وكانط وشوبنهاور ونيتشه وصولا إلى جاك مونو، العالم البيولوجي الشهير وغيره، فمن الممكن الاستفادة من أطروحاته لفتح نقاش حول تأثير العلاقة المتأزمة بين البشرية وكوكب الأرض بظهور مدّ أيديولوجي هائل للاتجاهات السياسية الديكتاتورية في العالم، وبفكرة الخلاص الفرديّ، ومن بعدها القوميّ لشعوب أو حكومات، على حساب الأفراد الآخرين، أو على حساب الشعوب الأخرى. فإذا كانت الأرض قادرة على كبس زر إعادة التشغيل لمنع محاولة قتلها، عبر الأوبئة والكوارث والفيضانات والزلازل والحروب، فهل نعتبر محاولات البشر والنخب والحكومات والأنظمة، للاستئثار بالموارد والنجاة بالمغانم ومنعها عن شعوبها، أو عن شعوب أخرى، على شاكلة ما يفعل الرئيس الأمريكي دونالد ترامب حاليّا، أو بعض الطغم الحاكمة في البلدان العربية، من رافعي أفكار «التجانس» و»طرد الوافدين» واللاجئين، أو ما تفعله حكومات الهند والصين وميانمار مع المسلمين، على سبيل المثال، جزءا من الفلسفة «الطبيعية» لإعادة «التوازن» في الأرض مثلا؟
لا تهتم الطبيعة بالحقيقة وإدراكها، كما يعتقد الإنسانيون، وعلى العكس من ذلك فالخطأ يلعب دورا كبيرا في الحفاظ على الأنواع وتطورها، وكذلك الخديعة. لا تعطي الطبيعة أهميّة لـ»الوعي الإنساني» ولا لـ»الأوهام البشرية الأخرى حول أن المستقبل سيكون أفضل من الماضي»، بل تهتمّ بتذكيرنا أننا كائنات لا نملك تقرير مستقبلنا النهائي، فهل يمكننا والحال هذه، أن نقبل أن نداس ونذرى، وبالتالي لا نملك دورا فعليا في «التكيف» مع مضيفتنا الأرض، وإذا لم نجد معنى في التقدم والتنوير والأديان، فهل يعتبر الدفاع عن أنفسنا ضد أعداء البشر والطبيعة هو المعنى الأهم لوجودنا البشريّ؟

المصدر: القدس العربي

ترك الرد

Please enter your comment!
Please enter your name here