فيما تودع الثورة السورية، ثورة الخامس عشر من آذار/ مارس 2011، عامها التاسع، لتدخل عامها العاشر، فإن السؤال الذي يطرحه غالبية السوريين، يطاول المدى الذي ستستمر فيه الكارثة الكبرى التي حلّت بهم، بسبب نهج نظام الأسد الدموي وتعامله الوحشي مع الثورة وحاصنتها الاجتماعية، وتحويل سورية إلى مسرح لصراع إقلمي ودولي، تستعر فيها حروب متعددة الأطراف، إقليمية ودولية، تتمظهر في حرب النظام على غالبية السوريين، وحرب بالوكالة، وأخرى على النفوذ والسيطرة، وسوى ذلك.
ولا يجد سؤال السوريين عن الخلاص سوى غصّات ثقيلة على صدور السوريين، مع غياب أي أفق لحل سياسي ينهي معاناتهم، واستمرار صراع عسكري دامي على بلدهم وفيها، تخوضه خمس دول، حولت سورية إلى ساحة صراع وتوترات وتفاهمات روسية – أميركية من جهة أولى، وروسية – تركية من جهة ثانية، وإيرانية – إسرائيلية من جهة ثالثة، وتحول الصراع ليس إلى مجرد نزاع دولي بسيط، تتواجه فيه الدول المتدخلة عبر وكلاء محليين وإقليميين، بل تمتلك كل منها أجندات ومصالح خاصة مختلفة.
ويعيد دخول الثورة السورية عامها العاشر إلى الأذهان تلك المظاهرات الاحتجاجية السلمية، التي انطلقت قبل تسع سنوات، حيث خطّ تلاميذ إحدى مدارس درعا على جدار مدرستهم عبارة “إجاك الدور يا دكتور”، وخرج سوريون كثر إلى الساحات والشوارع كاسرين حاجز الخوف، الذي بناء النظام الأسدي في نسختيه، الأب والابن، ومتحدّين بأجسادهم العارية رصاص قوات استخبارات النظام وسكاكين وسيوف الشبيحة وحقدهم. في ذلك الوقت، اكتشف السوري صوته وجسده، وراح يعبر عن ذاته في تظاهرات وتجمعات غير آبه بالثمن الذي يدفعه، نتيجة خروجه من القوقعة التي حبسته فيها أجهزة النظام لمدة تزيد عن أربعة عقود مديدة.
وعلى مدى أشهر عديدة، ارتبطت شخصية المتظاهر السوري ببطولة مفهومية في حدث الثورة، جسدته تظاهرات درعا وبانياس والبيضاء والميدان والزبداني وحمص وحماة ودير الزور وجامعة حلب وسواها. لكن كل ذلك تحطم، بعد ترك السوريين ضحايا قمع نظام الأسد العنيف والوحشي، واستقدمه ميليشيات نظام الملالي الإيراني الطائفية، المتعددة القوميات، للدفاع عنه، ثم جاء التدخل الروسي المباشر إلى جانبه، ليحدث تحولاً كبيراً في ميزان القوى، ليتركز الصراع العسكري في الشمال السوري.
وبعد تسع سنوات على انطلاقة الثورة، فإن كل محاولات الحل السياسي قد فشلت، سواء في جنيف أو استانة أو سوتشي، بسبب عدم جدية المجتمع الدولي في إيجاد حل سياسي، وعراقيل وألاعيب نظام الأسد وحلفائه في نظام بوتين ونظام الملالي القابع في طهران، إذ حتى اللجنة الدستورية، التي حظيت بموافقة المجتمع الدولي، وكانت بمثابة تغطية لعجزه حيال القضية السورية، لم تستطع إكمال الجولة الثانية من اجتماعاتها، بسبب محاولة النظام حرفها عن مهمتها، وبالتالي، لم يجد المبعوث الأممي إلى سورية غير بيدرسون سوى الإعلان عن خيبة أمله من تعثر عمل اللجنة، لكنه لم يُحمّل النظام مسؤولية إفشال أعمالها، وترك الباب مفتوحاً دون أي مقترح لتفعيل عملها، مع أن الأمم المتحدة ومعها هيئة الرياض2 التفاوضية، كانت تأمل في أن تفتح تلك اللجنة العتيدة المجال أمام حلّ سياسي في سورية.
أما المعارضة السورية، فبالرغم من فقدان تشكيلاتها السياسية والعسكرية دورها المؤثر في الأحداث وارتهانها للقوى الإقليمية والدولية، فإن من المستغرب أن تلك القوى لا تعمل إلا على تغيير هيكليات وتركيبات تشكيلات المعارضة السياسية، من دون العمل على تقويتها وتفعيل أدوارها الغائبة عما يعتري القضية السورية، فضلاً عن التمزق الذي يعتري تلك التشكيلات، بسبب الانقسامات الإيديولوجية والجهوية وسواهما.
وبالرغم من التفاهمات الروسية – التركية، إلا أن التصعيد العسكري الأخير على مناطق عديدة في محافظة إدلب، يكشف بوضوح أن النظام الروسي يريد السيطرة على ما تبقى من مناطق المعارضة السورية والتنظيمات المتشددة في شمالي سورية، واستكمال عودة سيطرة نظام الأسد على جميع الأراضي السورية، من خلال حرب الإبادة التي يقوم فيها. لكن ذلك يواجه معوقات عديدة، إذ أن معركة السيطرة على ما تبقى من محافظة إدلب ليست سهلة، ولا تريد تركيا في أن تتحمل موجات أخرى من تهجير السوريين ولجوئهم إليها، فضلاً عن أن سيطرة القوات الأميركية على حقول النفط في الجزيرة السورية، يفشل خطط ساسة الكرميلن في الاستحواذ على سورية، لذلك يعمل الروس على إبرام صفقة مصالحة بين نظام الأسد وحزب الاتحاد الديمقراطي الكردي والميليشات التابعه له. كما أن ازدياد الضغط الدولي على ساسة الكرملين، من أجل حملهم على وقف تصعيدهم العسكري، يشكل عامل إعاقة قوي في وجه ما يطمحون إليه، لذلك فإن استعجال ساسة الكرملين في استثمار ما حققوه عسكرياً على الصعيد السياسي يواجه الفشل، حيث لم يتمكنوا من تسويق ملف إعادة الإعمار وإعادة اللاجئين، إلى جانب فشلهم في التوصل إلى تسوية سياسية، يمكنها المحافظة على مصالحهم.
المقابل، تواجه قيادات الفصائل الإسلامية المتشددة، وخاصة هيئة تحرير الشام، مشكلات تتصل بالتفاهمات والاتفاقات الروسية – التركية، إضافة إلى مشكلة الفصائل التي تدور في فلكها، للتصدي لهجمات النظامين الروسي والأسدي، وذلك في ظل الانقسام القائم بين غرف عمليات الفصائل في إدلب. ويبقى أن أهل إدلب ونازحيها ومهجريها باتوا رهينة ما بين قبضة التنظيمات المتشددة وبين نيران هجمات الروس والنظام الأسدي.
ويعاني نظام الأسد معضلات عديدة، حيث تشهد المناطق التي يسيطر عليها، حالات تذمر كبيرة، نظراً للتردي الاقتصادي والأمني المستمر، الذي أدى إلى ضائقة معيشية خانقة، تتمظهر في الطوابير الطويلة على المواد الأساسية والغاز والمازوت، إلى جانب ارتفاع أسعار المواد الغذائية، وتدهور سعر صرف الليرة، وتفشي البطالة، وانتشار الجريمة، فضلاً عن انعدام الأمن والاحتكار والمحسوبية، وسطوة ميلشيات حزب الله وميليشيات نظام الملالي الإيراني الأخرى، وما يسمى القوات الرديفة الخارجة عن سيطرة النظام. وأفضى ذلك ارتفاع أصوات تطالب بإنقاذ الأوضاع ووقف الانهيار، إلى جانب تجرأ بعض الأصوات الموالية على انتقاد بشار الأسد، واتهامه بالوقوف وراء شبكات الفساد والنهب، وأدى ذلك إلى نشوء حملات ضد رأس النظام والحاشية المقربة منه، خاصة في مدن ومناطق اللاذقية وجبلة وسواهما. كما تشهد مناطق في درعا وحمص والرستن والغوطة الشرقية، حيث وثق “تجمّع أحرار حوران” خلال شهر فبراير/ شباط الماضي 37 عملية ومحاولة اغتيال في محافظة درعا، إلى جانب هجمات ومواجهات بين الأهالي ومقاتلي المعارضة السابقين من جهة، وقوات النظام وأجهزته الأمنية من جهة أخرى، وخاصة في مدينة الصنمين، حيث اضطر الروس إلى التدخل في محاولة لتهدئة الوضع، ومساعدة النظام على فرض سيطرته في المحافظة.
وحدثت تطورات عديدة، مع دخول الثورة السورية عامها العاشر، في ظل انهيار مشروع نظام الملالي الإيراني، واستمرار خضوع هذا النظام لعقوبات أميركية المشددة، وانطلاق الحراك الاحتجاجي في كل من العراق لبنان ضد نظام المحاصصة الطائفية في البلدين التابع لنظام الملالي، بما يهدد مشروع نظام الملالي للهيمنة على المنطقة.
والحاصل هو أن دخول الثورة السورية عامها العاشر يأتي مع استمرار الأحداث المأساوية التي تطال غالبية السوريين، وليس هناك ما يشير إلى سير الأمور نحو الأفضل، بل ستستمر معاناة السوريين في الداخل وفي بلاد المهجر، في ظل عدم اكثرات ولا مبالاة المجتمع الدولي بدماء السوريين، وغياب أي أفق للحل السياسي، وإصرار النظام وحلفائه في النظامين الروسي والملالي الإيراني على المضي في الخيار العسكري.
المصدر: بروكار برس