يستحيلُ على الكردي التأكيد على وجوده التاريخي في سوريا، استناداً على التاريخ الذي كتبه نظام البعث، أو النظام الأتاتوركي القديم والجديد؛ بنسخته الأردوغانيّة. وحرامٌ على الكرديّ السوري اللجوء إلى بعض المصادر الغربيّة أو التي نظرت إلى الأحداث بشكل قارب الحياد والموضوعيّة، لأن لملمة “الشذرات” من كتب التاريخ، وبـ “انتقائيّة”، سلوكٌ مفخخ – ملغوم، ينذرُ بمخاطر وخيمة. وعندما يقترف الكردي هذا السلوك البشع غير السويّ والخطير، أثناء محاولتهِ محاججة ناكر وجودهِ بما لديه من “شذرات تاريخيّة” والوثائق أو بالمعلومات التاريخيّة الموثّقة، يردّ الآخر، بكلامٍ من قماشة: “أوه، ما لنا وما للتاريخ! العودة إلى التاريخ لن يكون مدخلاً ناجعاً لحلّ مشاكل الحاضر. دعك من التاريخ وتأويله”!
اللجوء إلى التاريخ بؤس، والحديث عن حقوق الراهن، بقرينة الوجود التاريخي، كذلك بؤس. وتأكيدُ الكرديّ على الشراكة في الوطن السوري، على أنه ليس طارئاً، كذلك هو بؤس البؤس. ذلك أن الكرديَّ إذا نحى هذا المنحى، بحسب البعض، فإن حديثه عن وجودهِ التاريخي، بالضرورة، ينطوي على إقصاء وإنكار وجود تاريخي للعرب! وبذلك يصبح الكردي متّهماً، إن هو حاول، مجرّد محاولة، التأكيد على وجوده التاريخي وشراكته التاريخيّة في سوريا، على أن هذا السلوك البائس؛ نزوعٌ عنصري، وميلٌ بائس يفضي إلى الفاشيّة والنازية، لا محالة. ولا أعلم كيف شطح الخيال بهؤلاء إلى هذا الافتراض المريب؟ فمتى كان الكرديّ، حين يتم جرجرته إلى التاريخ ونفي وجوده التاريخي في سوريا، متى كان الكردي أثناء تأكيد وجوده، ينزلق نحو نفي الوجود العربي أو السرياني في الشمال السوري؟! لا يسأل هؤلاء أنفسهم: طالما لا نفع ولا طائل من العودة إلى التاريخ، لماذا يتم نفي وجود شعب، عبر الاستناد للتاريخ، كمدخل لنفي وجود قضيّة كرديّة في سوريا واستحقاقاتها القوميّة والوطنيّة، طبقاً للمرجعيّات الدوليّة؟! ولماذا يتم نفيّ الحقوق الكرديّة في الفيدراليّة، بقرينة التاريخ والجغرافيا والديموغرافيا وعلم الفلك والرياضيات وفيزياء نيوتن وفيزياء أينشتاين؟! ثم أن التاريخ، لا يؤوَّل، بل يُفسّر في سياق المحاججات المنطقيّة. وكذلك أعتقد أنه من طبائع الأمور، أثناء مناقشة القضايا الاجتماعيّة – السياسيّة القوميّة أو الدينيّة، لا مناص من العودة إلى التاريخ. وعليه، أبلسة اللجوء إلى التاريخ، ليس مدخلاً مناسباً لحلّ مشاكل الحاضر. لأن التاريخ، أحد أسس الحاضر. لا يستقيم الأمر، حين تجرّ الكرديّ إلى التاريخ، عبر نفي وجوده تاريخيّاً، ثم تطالبه بالكفّ عن العودة إلى التاريخ، أثناء محاولته ردّ اتهام نفي الوجود، عن نفسه!
وفق هذا المنطق، يغدو الكردي الذي يحاول تأكيد وجوده التاريخي بائساً ومسيّساً وانتقائيّاً وإقصائيّاً وينطوي على ما ينطوي عليه من مؤشّرات خطيرة، أقلّها شأناً؛ التمهيد والتوطئة للحروب، وللفاشيّة والنازيّة. ولا يكون الكرديّ، كرديّاً وطنيّاً خالصاً مخلصاً حقّاً، إلاّ حين يكون على مقاس هؤلاء؛ ينظرُ إلى وجودهِ، بمنظارهم، ويضبط نمط تفكيره، طبقاًَ لمنظورهم، ويزن حقوقه الوطنيّة والقوميّة، في ميزانهم، وبمكاييلهم التاريخيّة والجغرافيّة والقانونيّة، ووفق معاييرهم في علم الاجتماع والسياسة والتاريخ والقانون والآداب، وأصول وفقه الخطاب.
حديث الكرد في سوريا عن حق تقرير المصير، بؤس. وحين ينظرون إلى أنفسهم على أنهم شعب، كذلك بؤس. وحديثهم عن حقهم في الفيدراليّة، فهو بؤس البؤس. وإذا ناقشهم الكرديّ في المرجعيّات والمواثيق، ونصوصها الأساسيّة والصريحة فيما يتعلّق بحقوق الشعوب في تقرير مصيرها، يردّون أن تلك البنود مغلولة ومقيّدة ومشروطة، وأن هذه الشروط تعرقل وتعطّل تلك البنود. لكنهم يتغافلون أن تلك القيود والشروط، ربما تعرقل وتقوّض الحق، لكنها لا تشطبه كلّه، بل تتناول المستوى الأوّل من حق تقرير المصير (الاستقلال)، وليس كل مستويات هذا الحق (الفيدراليّة، الحكم الذاتي، الإدارة المحليّة، الاندماج التام).
وإذا نجح الكردي في خلق ثغرة صغيرة في الجدار السميك لذهنيّة التعطيل تلك، يجد نفسه أمام جدار آخر يمكن وصفه بجدار ذهنيّة التأجيل والترحيل، تأجيل الخوض في القضيّة الكرديّة في سوريا، إلى ما بعد حلّ الأزمة السوريّة، على أن الظروف صعبة ومعقّدة وشائكة… إلى آخر أطقم الكلام – المبررات! كأنّ النقاش في هذه القضيّة، حتّى على المستوى النظري، وطرح أفكار من خارج الصندوق التقليدي الذهني (الرسمي – المعارض) السوري سيساهم في تعميق الأزمّة السوريّة، وسيصبّ الزيت على نيرانها، ويقرع طبول الحروب القوميّة العرقيّة والأثنية!؟
لا يعلم هؤلاء أن للكرد دروس دامية وقاتلة ذاقوها من ذهنيّة التأجيل هذه. بدأت مع مصطفى كمال أتاتورك، حين انشق عن السلطنة، وشكّل حكومة في أنقرة وانفصل عن الدولة، أيضاً جمع حوله مجموعة الأغوات والباشوات وزعماء العشائر الكرديّة والمثقفين الكرد، ووعدهم بأنه سيمنحهم الحكم الذاتي، وأن الدولة الوليدة ستكون شراكة كردية – تركيّة، لكن بعد الانتهاء من الأزمة مع حكومة إسطنبول التي وقّعت على اتفاقات مهينة مع المحتلّ الأجنبي[1]. لكن، ما أن استتبّ الحكم لأتاتورك، حتّى أطاحَ باتفاقيّة “سيفر” واستبدلها باتفاقيّة لوزان، وتنصّل من وعوده للكرد ونكث بها، ما دفع الكرد إلى الانتفاضة عليه سنة 1925، بقيادة الشيخ سعيد بيران.
كذلك الخميني في ثورته على شاه إيران التي لم تكن ثورة إسلاميّة، بل وطنيّة شارك فيها الشيوعيون والقوميون والليبراليون والكرد. ووعد الخميني زعيم الحزب الديمقراطي الكردستاني الإيراني عبد الرحمن قاسملو بأن النظام سيمنح الكرد الحكم الذاتي، فورَ نجاح الثورة، والإطاحة بالشاه. لكنه أيضاً نكث بوعده، بل صار يلاحق المناضلين والمقاتلين الكرد “زنكة زنكة.. دار دار”، وفتك بهم. وانتهى بقتل الزعيم الكردي الإيراني قاسملو في فيينّا، سنة 1989، ثم قتل من خلفه في رئاسة الحزب؛ صادق شرفكندي في برلين سنة 1992.
يحاول البعض حصر “البؤس” الكردي أثناء الحديث عن الوجود التاريخي، في منطقة الجزيرة، وأن عفرين كانت في منأى عن هذه النقاشات وعن بعض مشاريع النظام البعثي – الأسدي الذي استهدف الكرد. ويسردون بعض تفسيراتهم لذلك. وينسون أو يتناسون أنه لو كان هناك نفط وغاز في عفرين، ولو كان عفرين على حدود كردستان العراق، لنابها ما ناب منطقة الجزيرة من تمييز عنصري واستهداف بعثي عنصري! ومع ذلك، كان نظام البعث – الأسد ينفي الهويّة الكرديّة لعفرين.
وإذا كان حديث الكرديّ عن وجوده التاريخي في سوريا، وعن شراكته التاريخيّة في هذا البلد، وحقوقهم القوميّة والوطنيّة الديمقراطيّة، ابتعاداً عن الواقع والواقعيّة، وكاشفاً للبؤس في التفكير والموقف والمحاججة، كذلك الردّ على هذا البؤس، بتلك الطريقة الاستعلائيّة المتدثّرة بالموضوعيّة والوطنيّة، هو أيضاً مشوب بالبؤس.
على امتداد فترة حكمهِ، كان نظام الأسد الأب، يرفض دعوات الإصلاح والانفتاح ورفع حالة الطوارئ والأحكام العرفيّة، ويتحجج بالخطر الوجودي الذي تشكّله إسرائيل، وبالصراع الكوني معها. كذلك يحاول البعض من المعارضين السوريين، تعطيل أي شكل من أشكال طرائق الكرد السوريين في التعبير عن مطالبهم وحقوقهم في سوريا. فمنهم مَن يتحجج بالتراجيديا التاريخيّة التي تعيشها سوريا، رغم أنهم يناقشون كل شيء، وسط هذه التراجيديا. ومنهم مَن يلقي بظلال الوجود الاحتلالي الأجنبي المتعدد الجنسيّة في سوريا على أنه حرّض وشجّع الكرد على المطالبة بالفيدراليّة والحكم الذاتي. ومنهم مَن يريدون ضبط لسان ووعي ونمط تفكير الكردي، وما ينبغي عليه قوله أو فعله أو سلكه، حتّى يتكرّم الشريك العربي ويتفضّل بالاستماع للكردي ومطالبهِ، ويقبل ما يراه مناسباً للكرديّ ويرفض ما لا يناسبهُ! لهؤلاء الوطنيين الأخيار والأحرار الديمقراطيين التنويريين، أتقدّم بشديد اعتذاري على هذا البؤس الذي لا يغادرني، كـ كردي سوري. ومع هذا البؤس الذي يجدني البعض أنني فيه، ما أنا واثق منه تماماً، أنني في أي يوم من الأيّام، أثناء محاولتي مناقشة المطالب والحقوق الكرديّة، لم أقل أبداً للأخوة العرب أو السريان: “أنا الأصلي، أو الأصيل، أنتم الطارئون”. وكسراً للتقاليد والعادات لدى الساسة الكرد والعرب والسريان، سنة 2012، كتبت مقالاً بعنوان “المنظمة الآثوريّة الديمقراطيّة تمثّلني”، وطويت المقال على طلب انتساب لهذا الحزب القومي الاثوري – السرياني (المسيحي) السوري. وما زلت عند ذلك الكلام الذي قلته سنة 2012. أيّها الشركاء الأفاضل، هل تأذنون لي بأن أفيدكم بشيء: كي تحولوا دون لجوء الكردي إلى شذرات الكتب التاريخيّة، حتّى يثبت لكم وجوده التاريخي، حاولوا أن تنظروا إلى الكرد كشعب، وشريك تاريخي وأصيل لكم في هذا البلد. بزوال الأسباب، تزول النتائج. وسدّ أبواب اللجوء إلى شذرات التاريخ أمام الآخر، لا يمكن إلاّ بسدّ نفس الأبواب أمام الذات.
المصدر: بروكاربرس