شادي لويس: فاتورة إيف كلاين: تبادل اللاشيء

0

هذا الأسبوع، باعت دار “سوذبيز” للمزادات الفنية في باريس، قطعة أخرى. كانت التقديرات الأولى للبيع بين 300 ألف و500 ألف دولار، إلا أن الصفقة حسمت عند 1.2 مليون دولار، أي حوالى ثلاثة أضعاف متوسط السعر المتوقع. هذا ليس خبراً في حد ذاته بالطبع، فمعدلات التضخم في السوق الفنية هائلة بأي حال، خصوصاً مع اضطرابات الأسواق المالية، فحينها تتحوّل المقتنيات إلى مخزن للقيمة أكثر جاذبية.
ولم يكن من غير المعتاد عدم إعلان “سوذبيز” عن هوية الشاري، مكتفية بالإشارة إلى جنسيته كأوروبي، فسوق المضاربات الفنية واحدة من أكثر المجالات سرية. أما اللافت للانتباه، فكان أن القطعة المباعة، هي مجرد فاتورة حررها الفنان الفرنسي، إيف كلاين، في ديسمبر/كانون الأول 1959. ومع هذا تظل القصة متوقعة إلى حد كبير. فكلاين من بين الفنانين الأعلى سعراً في جيل ما بعد الحرب العالمية الثانية، ومن المفهوم أن تجتذب وثيقة موقعة باسمه شهية هواة جمع مقتنيات المشاهير. إلا أن الاستثنائي هو أن الفاتورة كانت إيصالاً يوثق استلام خمسة غرامات من الذهب مقابل اللاشيء، أو لنكون أكثر دقة وبحسب نص الوثيقة نفسها، مقابل “مساحة من الحساسية التصويرية غير المادية”.

واحدة من القصص الأكثر رواجاً بخصوص كلاين، أثناء شبابه المبكر، أنه وفي عمر التاسعة عشرة، بينما كان مستلقياً على أحد الشواطئ في الجنوب الفرنسي مع صديقيه أرمان فيرناندز وكلود باسكال، اتفق الثلاثة على تقسيم العالم بينهم. اختار أرمان الأرض، وكان نصيب باسكال الكلمات، أما كلاين فوقع خياره على الفضاء المحيط بالأرض. 

في عمره القصير الذي سينتهي بسكتة قلبية في الرابعة والثلاثين من العمر، سيساهم كلاين بشكل مؤثر في تطور ثلاثة تيارات فنية: الفن الأدائي والمينيمالية والبوب آرت. وقبل ولوجه عالم الفن التشكيلي، سيقدم كلاين نموذجاً مبكراً للموسيقى المينيمالية، في مقطوعته “سيمفونية الصمت وحيد النغمة” (1947) والتي تتكون من تآلف موسيقي واحد مكرر بشكل متواصل لمدة 20 دقيقة، تليها 20 دقيقة أخرى من الصمت الكامل. وفي العام 1958، سيطلق عمله التشكيلي الشهير، “الفراغ”، بفكرة مشابهة. سيتوافد الآلاف إلى الغاليري الباريسي لمشاهدة العمل، ليجدوا غرفة شبه خاوية بجدران بيضاء، وفي منتصفها فيترينة عرض فارغة.

كان النجاح الذي حققه العرض، هو ما أوحى لكلاين بفكرة عمله اللاحق: بيع حصص من الخواء مقابل سبائك من الذهب النقي. ولم تتوقف العملية الأدائية عند تبادل المعدن النفيس بإيصال ملكية اللاشيء الموقّع باسم الفنان، فكلاين دعا المشترين إلى حرق الإيصال، وفي المقابل قام هو بإلقاء الذهب في نهر السين. والفاتورة المباعة في “سوذبيز” هي واحدة من تلك الإيصالات التي احتفظ بها شاريها، ولم يحرقها.

الآن، التيمات هذه كلها باتت معتادة، بفضل كلاين. إذ  لعب على المفارقة وثنائيتها، القطعة الموسيقة الصامتة، والصمت أحادي اللحن، والعمل التشكيلي اللامرئي، واللوحات أحادية اللون، والذهب مقابل اللاشيء، وصكوك امتلاك الفراغ. وكان هناك جانب طقوسي أيضاً، فما سعى كلاين لكشفه هو جوهرية الطقس في تعريف الفني. فالحضور إلى القاعة الموسيقية أو إلى الغاليري، ووجود الموسيقيين وآلاتهم وفيترينة العرض والنصوص التوضيحية للمعرض، هو ما يهم، أي أن تلك البنى الشكلية والممارسات هي ما تحول ما يُعزف، حتى لو كان صمتاً، إلى موسيقى، وتجعل ما سيعرض، حتى لو كان اللاشيء، فناً. وذلك يعتبر إدراكاً ثاقباً لماهية الثقافة العليا واستهزاء علنياً ومباشراً بها أيضاً. 

فاتورة
علينا ألا ننخدع بعنوان المدرسة الفنية التي انتمى لها كلاين، فواقعيته الجديدة لا تمتّ بصِلة إلى الواقعية بمفهومها الكلاسيكي، بل ما يربطها بالواقع هو أنها طريقة للنظر إليه. وفي الإتكاء على مفارقاته المعتادة، صاغ كلاين واقعية يوتوبية ومنحطّة في الوقت ذاته. فمن ناحية، فهم فيتشية المُلكية، ودور عمليات التبادل الاقتصادي في إنتاج الفني. فمجرد وجود صك ملكية يُنتج فناً بحد ذاته، أو على الأقل سلعة هي الصك نفسه، سلعة فنية قابلة للتوظيف كوعاء للقيمة. ابتذل كلاين هذه التيمة إلى أكثر درجات الفجاجة، فغير أنه استخدم الأجساد العارية لموديلادته النسائية كفرشاة للألوان، بطلائهم بلونه الأزرق المميز قبل أن يطلب منهن أن يتقلّبن على اللوحات البيضاء، فكلاين أيضاً منح بعضهن شهادات موقّعة بإسمه بأن الواحدة منهن هي عمل فني. في الجانب الطوباوي، كان طقس حرق الصكوك وإلقاء الذهب في النهر، هو إعادة العالم إلى “وضعه الطبيعي”، بحسب كلمات كلاين، طقس سحري وتخريبي، تُرتجي منه العودة بالفن إلى ما قبل منطق السوق. 

بعد معرضه الأخير، والذي لم يلاقِ نجاحاً من ناحية المبيعات، كتب كلاين مستخدماً كلمات خصومه: “أنا حفّار قبور”. الفكرة التي خطرت له حينها، أن ألعابه الأدائية التي لاقت رواجاً هائلاً، لم تقُدنا إلى اليوتوبيا، بل وضعت نهاية الفن. 

أشارت “سوذبيز” إلى الفاتورة المباعة، بوصفها النموذج الأول للصكوك غير القابلة للاستبدال”(NFT)، والتي تضمن المُلكية الحصرية للقطع الفنية الرقمية عبر وثائق مشكلة بتقنية سلاسل الكتل. وفي سابقة هي الأولى للدار، قبلت أن يدفع الشاري المبلغ كاملاً بالعملة الرقمية. وكأن مزحة كلاين التي أطلقها قبل أكثر من ستة عقود، غدت نبوءة متحققة، فعملية التبادل هي القيمة في حد ذاتها. 

*المدن