عمر قدور: هل هناك حقاً عملية عسكرية تركية؟

0

يوم الخميس الفائت، كرر مولود جاويش أوغلو وزير الخارجية التركي تصريحات له في أيام سابقة عن عدم وفاء موسكو وواشنطن بوعودهما المتعلقة بإبعاد قوات قسد من مناطق سورية، أتبع أوغلو كلامه بأن بلاده ستفعل ما يلزم، وكان وزير الدفاع خلوصي آكار قد هدد أيضاً بشن عملية عسكرية ضد القوات الكردية. لا حدود واضحة ونهائية للمناطق المعنية بحديث المسؤولين الأتراك، فثمة حديث عن تعهدات روسية بسحب القوات الكردية من تل رفعت ومنبج لم يتم الوفاء بها، وحديث آخر عن تعهد أمريكي بانسحاب تلك القوات إلى عمق 30 كم داخل سوريا.

لم يكن هناك حدث دراماتيكي تسبب بالتصعيد التركي الحالي، باستثناء مقتل جندي تركي في هجوم نُسب إلى وحدات الحماية الكردية، وأتى مقتل الأخير بعد مقتل زملاء له في أكثر من استهداف للقوات التركية في إدلب حيث من المتوقع أن يكون للأسد أو لحلفائه دور في تدبير تلك الحوادث. لكن، كما هو معلوم، تتخذ القوات التركية في إدلب وضعية دفاعية، وتعزيزها في الأسابيع الأخيرة أتى تحسباً من هجوم لقوات الأسد تحت مظلة روسية إثر تصعيد خفّت حدته قليلاً بعد قمة بوتين-أردوغان الأخيرة.

التصريحات التركية تجمع واشنطن وموسكو في سلة عدم الوفاء بالالتزامات، وهذه إشارة إلى غضب أنقرة من واشنطن وموسكو معاً، إن لم تكن دلالة على تخوفها من التقارب الروسي-الأمريكي في الملف السوري وإمكانية عقد تفاهمات ثنائية لا تأخذ في الحسبان مصالح تركيا. المستوى السياسي للتهديدات قد يقلل من فرص حدوث العملية العسكرية، إذا لو بادرت واشنطن وموسكو إلى طمأنة أنقرة في ما يخص مصالحها ونفوذها. وهو يقلل من فرصة حدوث العملية لأنها ستكون من دون رضا الطرفين، أو أحدهما في منطقة نفوذه، وذلك لم يحدث في تجارب التوغل التركي السابقة.

كانت هناك إشارات تركية إلى أن إطلاق العملية المرتقبة أو عدمه يتوقف على نتائج لقاء بايدن-أردوغان، ففي الخلفية هناك العلاقات الأمريكية-التركية المتدهورة لأكثر من سبب معلن، لكن أيضاً للعديد من الأسباب غير المباشرة. فيما مضى أنقذت “الكيمياء” بين شخصي ترامب وأردوغان علاقات البلدين من مصير أسوأ، وهي مفقودة مع بايدن، وحالياً لا تبدو واشنطن مستعدة لتقديم أي حافز ثمين لأنقرة كما كان يحدث في الأيام الذهبية لتحالفهما، بل باستثناء الاعتراض على صفقة الصواريخ الروسية “ولاعتبارات أمنية” لم تحاول واشنطن ثني أنقرة عن التوجه شرقاً، وما يربطهما كعضوين في حلف الناتو تضاءل مع تراجع مكانة الحلف في الاستراتيجية الأمريكية. تأكيد الرئيسين على أهمية علاقة التحالف ضمن الناتو، وفق البيان الصادر عن لقائهما أمس، يصعب أخذه بجدية من عيار الملفات الأخرى الخلافية.

من ضمن المخاوف التركية يأتي احتمال انسحاب القوات الأمريكية من سوريا لتخلفها القوات الروسية وقوات الأسد كما حدث في جبهة حوران، ثم لتعود مناطق الإدارة الذاتية إلى سيطرة الأسد على منوال التنصل من التفاهمات في درعا مؤخراً. سيناريو الانسحاب سيلبي مخاوف أنقرة، التي سبق أن قبلت بوجود قوات الأسد على الطرف الآخر من الحدود لقاء إبعاد القوات الكردية، لكنه أيضاً سيقوي الموقف الروسي إلى حد المطالبة بانسحاب مماثل للقوات التركية، وبالتزام أنقرة بتفاهماتها مع موسكو التي نصت على احترامها وحدة وسيادة الأراضي السورية. السيطرة على جزء مما تسيطر عليه القوات الكردية حالياً يجعل أنقرة في موقع أقوى للمرحلة اللاحقة، من أجل أن يكون لها تأثير في جوانب أخرى من الملف السوري لا في الشق الكردي الذي سيتولاه الأسد بما لا يبتعد عن المطالب التركية. 

المعركة ضد حزب العمال الكردستاني وفرعه السوري لها شعبية لدى الجمهور التركي عموماً، وجمهور حزب العدالة وحليفه القومي خصوصاً. هذا وجه القوة الوحيد الذي ينطلق منه أردوغان في تهديداته الحالية، أي بما يُعتبر متفقاً عليه كأولوية في قائمة الأمن القومي التركي. وهو، بهذا الاعتبار وحده، يقامر بورقته الأخيرة، الأمر المستبعد ما لم يكن سيفعلها درءً لسيناريو أسوأ. ورغم أن موعد الانتخابات التركية بعيد نسبياً إلا أن الاستعداد لها، والحسابات الانتخابية التي بدأت مبكراً، قد يدفعانه إلى عمل عسكري في توقيت محلي بقدر ما يحذّران من الفشل فيه. 

الأيام الأخيرة شهدت حشوداً على طرفي منطقة تل تمر، حيث أجرت قوات الأسد مناورات مدعومة بالطيران الروسي في منطقة سيطرة قسد هناك، وفي مكان ملاصق تماماً للمظلة الجوية الأمريكية. ثمة توجس أيضاً في منبج، خوفاً من أن تكون هي وجهة العملية التركية إذا بدأت، وهناك حديث عن سحب مقاتلين من الفصائل المدعومة تركياً من أعزاز إلى جبهة منبج، ما يرجّح بقاء جبهة تل رفعت خارج حسابات التصعيد، إلا إذا انعطفت أنقرة نحوها عطفاً على لقاء بايدن-أردوغان.

الأصل في التطورات الأخيرة عدم الركون إلى الوضع الحالي من قسمة النفوذ، فواشنطن لا تبدو متمسكة بها، ولا بالبقاء في سوريا سوى في الأمد القريب، وهي الفرصة التي ينتظرها بوتين. الانسحاب الأمريكي من أفغانستان وضع على الطاولة فرضية انسحاب مماثل من سوريا، وهو لا يقتصر على سحب مئات الجنود الأمريكيين، بل يتعداه إلى عدم الاكتراث بمصير إدلب التي إذا هوجمت ستتسبب بأزمة لاجئين ضخمة جداً. ليس ثمة ضغوط أمريكية أو تحذيرات من تدهور الوضع هناك، وحتى التحذيرات الأوروبية توارت أثناء التصعيد الروسي الأخير وكانت لهجة لندن استثناءً.

من المستبعد أن يصدر أردوغان أوامره ببدء عمل عسكري بعد إشاعته صورة إيجابية عن أجواء لقائه ببايدن، أي أن العملية العسكرية التركية باتت مؤجلة في انتظار ترجمة إيجابية للّقاء. لكن المعطيات العامة تميل إلى إبقاء التهديد بالعمل العسكري قائماً، فمع بايدن وبوتين لن تهنأ أنقرة بالاستقرار الذي تحتاج إليه، وإذا عادت طهران إلى المفاوضات النووية وانتهت بنجاح فسيكون ظلها بمثابة ثقل إضافي على الجار التركي. 

*المدن