علي سفر: سوريا.. ذاكرة صماء عمياء، ولا أحد يهتم!

0

في اليوم العالمي للتراث السمعي والبصري

احتفلت الأمم المتحدة ومنظمة اليونيسكو قبل أسبوع وأكثر بـاليوم العالمي للتراث السمعي والبصري والذي جاء في بتاريخ في27 تشرين الأول/أكتوبر.

وفي الحقيقة إن لفكرة الاحتفال بهذا اليوم أثر موجع عند غالبية من عمل في الإعلام السوري في غالبية مراحله، ولاسيما في شقيه المرئي والمسموع. خاصة وأن شعار المناسبة لهذا العام كان “استحضار الماضي بالصوت والصورة” فالجميع يتذكر أو بالأحرى مازال يرى الوضع المؤلم للوثيقة السمعية البصرية السورية، منذ صار الإعلام السوري كله مؤمماً ومملوكاً من الدولة التي سيطر عليها حزب البعث منذ 1963ما أدى إلى واقع سيء ساهم النظام والمؤسسات التي سيرها طيلة عقود في تفاقمه.

 فالأرشيف البصري (المشاهد السينمائية الأولى) عن التاريخ السوري غير متوفر في سوريا في عموميته، بل هو متوفر في المكتبات السمعية البصرية الغربية وفي أراشيف جامعاتها، وحين قام بعض المنتجين بتقديم أعمال وثائقية عن مرحلة النضال من أجل الاستقلال والتخلص من الانتداب الفرنسي تم اللجوء للأرشيفين الفرنسي والبريطاني، كما في سلسلة (ذاكرة وطن) للمخرج أمين البني. فرغم وجود بعض المصورين السوريين في تلك المرحلة إلا أن ما صوروه لم يظهر على السطح، وحتى في الجانب الإبداعي نعرف وكذلك يعرف المهتمون بالسينما أن الأرشيف الإبداعي السوري لم يحظ بالاهتمام المطلوب، لا من قبل اصحابه، ولا من المؤسسات التابعة للدولة في مرحلة مابعد الاستقلال، وعلى سبيل المثال لا الحصر فإن أول فيلم سوري ناطق (نور وظلام،1948) للمخرج الراحل نزيه شهبندر مفقود، ولم يبق منه سوى ثلاث دقائق، قام بعرضها المخرجون محمد ملص والراحل عمر أميرالاي وأسامة محمد في فيلمهم عن الشهبندر والذي حمل اسم (نور وظلال)!!

أتحدث هنا عن النصف الأول من القرن العشرين، وإذ أردنا أالاستطرد في الشرح عن الأرشيف الإذاعي والتلفزيوني السوري فهذا يحتاج لحديث مطول، ولكن يمكن هنا توضيح أن المؤسسة العامة للسينما التي كانت تصدر الجريدة السينمائية في ستينيات القرن الماضي توقفت عن فعل ذلك ولم تقم بوضع أرشيفها في متناول الجمهور، كما ظل أرشيف التلفزيون السوري مهملاً بسبب عدم تجديده وإعادة نقله إلى أنظمة العرض الأحدث، إذ أن أرشيف الأشرطة (2Inch ) لايوجد سوى ألة واحد لعرضه ونقله للأنظمة الأحدث، وهذه الألة كانت تتعطل دائماً! ولهذا كنتَ ترى أن الأرشيف التلفزيوني الأسود والأبيض كان يعرض مشوشاً وبصورة غير نظيفة..

وكثيراً ما كان المهنيون الرواد في التلفزيون السوري يتحدثون بحسرة عن فقدان مكتبة التلفزيون لجزء وازن من الأرشيف بعد ان فاض نهر بردى الذي يمر أحد فروعه وسط حرم مبنى التلفزيون، ما أدى إلى تسرب كثيف لمياهه أغرق مكتبة الأشرطة السينمائية وغيرها!

غير أن أسوأ ما حصل هو تخلي إدارة الهيئة العامة للإذاعة والتلفزيون وبقرار أبله من رئاسة الوزراء عن قسم التصوير السينمائي، أي عن خط الانتاج السينمائي وتدمير مبناه، وإحالة العاملين فيه إلى الأقسام الأخرى، وإتلاف مئات أشرطة الخام التي بقيت لعشرات السنين تنتظر من يستخدمها، في بلد عانت فيه ومازالت عملية الانتاج السينمائي من تدهور مريع بسبب عدم اهتمام النظام بها، وترك التحكم بعملية الانتاج بيد ثلة من المدراء الذين تعاقبوا على مؤسسة السينما التي تحتكر تسويق الانتاج، وتقوم بالرقابة عليه!

كل هذه تفاصيل كنا نتحدث عنها قبل الثورة السورية، وكنا كمجموعة من المهتمين قد طرحنا مشروعاً للمكتبة السمعية البصرية السورية، ولكن المشروع بقي حبيس الأدراج! لا لشيء سوى أن أحداً لن يستفيد منه سوى أولئك الحالمين به، وهو وقبل أي شيء ليس سبوبة فساد لأحد..

وبالإضافة إلى ماسبق فإن طرح مشروع مثل هذا كان سيحرج النظام البعثي كله، إذ كيف يمكن العمل على هذا الشيء في الوقت الذي قام به حزب البعث بإغلاق مركز التوثيق التابع له (مركز المعلومات القومي) والذي كلف خزينة الدولة مئات ملايين الليرات!

لقد كانت سوريا ومازالت بلداً متخلفاً في مجال الأرشفة، على المستوى العالمي وكذلك على المستوى العربي والإقليمي! فكثير من دول المنطقة خطت خطوات مهمة في هذا المجال، وربما ساعدها في ذلك أن أرشيفها قليل وقابل للسيطرة عليه تقنياً، ولاسيما دول الخليج العربي التي مضت بخطوات جيدة في هذا المجال، ولكن بمقارنة كثافة الأرشيف السوري بوصف سوريا بلداً إقليمياً فاعلاً، مع غيره من الأراشيف، ترى أن الميزة المفجعة هي عدم القدرة على المحافظة عليه وتظهيره بالشكل اللائق! وقد أظهرت أحداث خاصة بالنظام ذاته مدى فشل مؤسساته في تحقيق متطلباته، العادية أو الطارئة، فحينما مات الأسد الأب، وتم نبش الأرشيف البصري الخاص به، والذي كان يحتفظ بنسختين منه، واحدة في مكتبة الهيئة العامة للإذاعة والتلفزيون، وواحدة في القصر الجمهوري، كشفت التغطية الإخبارية أن تلفزيون المستقبل الذي يملكه آل الحريري، قد حاز أرشيفاً كاملاً عن الديكتاتور الراحل لا يتوفر مثله في سوريا، وكانت المفارقة المدوية أن الجزء الأكبر من هذا الأرشيف قد جاء من مكتبة التلفزيون، وربما من مكتبة القصر الجمهوري ذاتها!

2

 لم تؤثر وقائع سنوات الثورة على الأرشيف أو على المدونة السمعية البصرية السابقة لها، فمكتبة الهيئة العامة للإذاعة والتلفزيون لم يقترب منها أحد، إن كان في دمشق أو حلب، وفعلياً تضررت المراكز التلفزيونية في المحافظات التي خرجت عن سيطرة النظام، ولكن كل ما أنتجته سابقاً مؤرشف في المكتبة المركزية. ولكن القصة ليست هنا أبداً، القصة التي يجب التركيز عليها هي المكتبة البصرية الهائلة التي أنتجتها الصحافة الشعبية/ المواطن الصحفي، في تغطيتها لوقائع الثورة السورية ساعة بساعة ويوماً بيوم.. بعد أن قام النظام بمنع الوسائل الإعلامية المحترفة من العمل على الأرض السورية في محاولة منه للسيطرة على سياق القصة الخبرية السورية، هذه المكتبة التي قدمت ذخيرة لمئات آلاف التقارير التلفزيونية، وآلاف الأفلام الوثائقية!

هذه المكتبة التي تتوزع بين الأفراد الذين قاموا بتصويرها، وبين الوكالات المحلية التي قامت بتكليف المصورين فيها وكذلك الوسائل الإعلامية التي اشترتها! هذه المكتبة الهائلة يتوجب أن يقوم مركز سوري ما بأرشفتها بوصفها تدون الوقائع اليومية للثورة ولحرب النظام على المناطق التي خرجت عن سيطرته، وكذلك وقائع استيلاء التنظيمات المتطرفة على مساحات كبيرة من سوريا، وقيامها بجرائم ضد المجتمع توازي جرائم النظام ذاته! ومن المؤسف حقاً أن جزءاً مهماً من هذا الأرشيف يتوفر لدى مؤسسات تم إنشاءها لصالح الثورة السورية وبتمويل من متبرعين تحت هذا شعار توثيق ثورة الحرية والكرامة، ولكن هذه المؤسسات باتت تتاجر به، بحجة الحصول على التمويل بعد أن تقلص برنامج الدعم الدولي للوسائل الإعلامية البديلة!

ولعل الكارثة التي حدثت قبل عامين في موقع يوتيوب توضح الحاجة الماسة لتضافر جهود جميع المعنيين من أجل الحفاظ على هذا الأرشيف، فالجميع يتذكر كيف قام الموقع بحذف عشرات الآلاف من الأفلام الإخبارية السورية بحجة محتواها العنيف وعدم ملائمتها لقوانين النشر، ما حرم الجمهور المتابع للكثير من التفاصيل فضلاً عن فقدان لقطات ولحظات مهمة لا يمكن استعادتها مطلقاً إلا عبر تراجع يوتيوب عن فعلته ومعالجة وضع الأرشيف السوري بطريقة ما، وبالتأكيد هذا الفعل يفيد النظام السوري الذي يريد إخفاء جرائمه، ولهذا تصبح محاول استعادة الارشيف جزء من واجب منظمات حقوق الإنسان ومنظمات المجتمع المدني وغيرها، وكذلك يصبح من الواجب دعم جهود أفراد يقومون بعملية الأرشفة مثل الناشط تامر تركمان الذي مابرح يقوم بهذا العمل دون وجود داعمين.

3

هل يمكن إصلاح واقع الأرشفة السمعية البصرية في سوريا؟ بالتأكيد يمكن ذلك، ولكن من سيقوم بهذا ومن سيتحمل كلفته؟

المتطلبات تبدأ أولاً بوجود دولة عصرية تحترم مواطنيها وتحترم ما أنتجه هذا المواطن وأسلافه، وضمن هذا التوجه سيكون وجود المركز السمعي البصري السوري هو الخطوة الأهم، في عدم ترك الذاكرة السورية مرتهنة للإرادات الشخصية والأمزجة في المؤسسات الأخرى.

وبالتأكيد لا يمكن لوزارة بميزانية ضئيلة كوزارة الثقافة أن تؤدي دوراً يحتاج لإرادة الدولة كلها، هناك أرشفة محدودة في المكتبة الوطنية التي تسمى بمكتبة الأسد حالياً وهي تتبع لوزارة الثقافة، وكذلك في المؤسسة العامة للسينما، ولكن يجب الإشارة إلى أن وزارة أخرى هي وزارة الإعلام تتحمل جزءاً كبيراً من مسؤولية عدم الحفاظ على أرشيف السوريين، أذكر وعلى سبيل المثال حادثة كنت حاضراً على تفاصيلها؛ حيث أن مشكلة الأرشيف التلفزيوني القديم وعدم نقله لأنظمة العرض الأحدث، تحتاج لمبالغ مالية كبيرة لحلها، مثل تجديد آلات العرض القديمة وإصلاحها، وهي مشكلة كان القاصي و الداني في المنطقة يعرف بوجودها لدى السوريين، ولهذا تقدمت إحدى الفضائيات العربية الخليجية بعرض تقني لوزارة الإعلام تقوم فيه بإعادة تجديد الأرشيف السوري في سوريا ذاتها وليس في الخارج، كل ذلك مقابل الحصول على نسخة من الأرشيف المنوع، محدودة وقت البث (فترة محددة بعدة سنوات) وكان العرض بمجمله جيداً لكونه يوفر ملايين الدولارات على الخزينة السورية، ولكون عملية النقل ستكون (Digitizing) أي على مستوى متطور وفق أحدث النظم التلفزيونية، وكنت عضواً في اللجنة التي درست التفاصيل، ولكن القرار في النهاية كان سياسياً حيث رفضت القيادة القطرية لحزب البعث الموافقة على العرض بحجة أنه يفرط بالأرشيف الوطني السوري!!

*مادة خاصة بموقع رابطة الكتاب السوريين

ترك الرد

Please enter your comment!
Please enter your name here