روضة طه الطه، كاتبة سورية تقيم في المانيا
الرقة، مدينة موغلة في القدم، فيها اكتشف عالم الآثار جاك كوفان أول بيت في التاريخ، قبل أن تغمره مياه الفرات، وذلك في “تل مريبط” فهي من أهم المدن السورية؛ لغناها بالمواقع الأثرية والتلول الحافلة بالكِسَر الفخارية العائدة إلى عصور ما قبل التاريخ، وصولاً إلى العصور الإسلامية التي طوقت الرقة بسور عظيم على هيئة حذوة الحصان، وقد احتضن هذا السور الرقة عصوراً، إلى يومنا هذا الذي قصف فيه الطيران الحربي ذلك السور، ومحيطه، ونال منه ما نال من التهشم والتصدع والانهيار، دون مراعاة شموخه خلال العصور وعراقة نسبه، حيث زاره السياح من جميع أنحاء العالم وكتب عنه كثير من الدراسات والأبحاث، وقيلت فيه القصائد والأشعار …
ومثل سور الرقة، كان طه الطه، احتضن تاريخ الرقة القديم والمعاصر، تراثها وثقافتها وحضارتها داخل متحف أنشأه بجهده الخاص وبإمكاناته البسيطة.
ولد طه الطه عام 1947م في منطقة خرائب الرقة القديمة، حيث التلال الأثرية، وبالفطرة كان ذلك الطفل الذي أتم سنواته الخمس يلتقط الكِسَر الفخارية وقطع الصوان، فيجمعها ويأخذها إلى بيته، وهو يجهل هويتها وقيمتها.
ومع مرور الزمن زاد عشقه لتلك القطع الفخارية، فبدأ يحاول ترميمها لتستعيد شكلها الأول؛ فإذا بها قطع أوانٍ منزلية وسُرُج للاستضاءة، وقطع حلي، ودمى طينية تنتمي إلى زمن غابر.
بدأ دراستها وتعقب تاريخها، ليصل إلى نشأتها الأولى، وذلك بعد أن جمع كتباً تاريخية وأثرية، مشكلاً نواة لمتحف صغير عام 1973م.
ومع مرور الوقت زاد شغفه بتلك القطع، فعمل مع كبار علماء الآثار الأوربيين والأجانب الوافدين إلى سورية لدراسة علم الآثار وحضارة بلادنا، حضارة وادي الفرات، من خلال عمليات التنقيب وكتابة الأبحاث والدراسات.
ولم يتفرد طه الطه بمجال دراسة الآثار فقط، وإنما جمع التراث والفولكلور الشعبي بمنطقة وادي الفرات، وأنشأ في متحفه قسماً خاصاً بالتراث من لباس، وأوانٍ منزلية وأدوات زراعية، وأخرى كانت تستخدم في مجال الصيد، وكل ما يخص الفن الفطري، وصولاً إلى الشعر الشعبي والحكايات والخرافات. ودفعه اهتمامه بالتراث إلى إنشاء “فرقة للتراث الشعبي” وهي فرقة تؤدي الغناء الشعبي والفولكلور، وتروي الشعر الشعبي وتسرد تاريخه، من خلال أماسي أسبوعية يقيمها في منزله ومتحفه لتدوين تاريخ الشعر الشعبي بكل ألوانه وبحضور الكثير من الباحثين والمهتمين والشعراء والمغنين ومنهم الشاعر محمود الذخيرة والمطرب محمد الحسن، المطرب حسين الحسن وأولادهم، الشاعر والباحث محمد الموسى الحومد، الدكتور الباحث محمود النجرس، ومن المطربين ابراهيم الأخرس، موسى عبد العزيز، ابراهيم الهباش، رمضان الصايل، علي السنود، عبد الكريم الشويمي، والكثير من الأسماء التي لا تسعفني الذاكرة لاستحضارها.
كما قام بدراسة الأنساب والعشائر وألَّفَ كُتباً في هذا الخصوص، وكان مصيرها مخطوطات من رماد. كما كرّس وقتاً للعمل على تشجيع التظاهرات الفنية، والمنتديات الأدبية، وملتقيات التصوير الضوئي. وكان ينظًم دورياً نشاطاً دولياً خاصاً بالتصوير الضوئي، بعنوان “ملتقى الربيع للتصوير الضوئي”، يقام من خلاله معرض ومسابقة للتصوير بإشراف حُكام متخصصين في هذا المجال، وتمنح فيه جوائز وشهادات تقديرية على الفنانين المشاركين، في حفل سنوي يقيمه من حسابه الخاص.
وكان يُنظم أيضاً، احتفالية ثقافية دورية، يكرّم من خلالها كبار علماء الآثار ورؤساء البعثات الأثرية الأوربية، الوافدة إلى الرقة للتنقيب عن الأثار ودراستها، إضافة إلى تكريم الأدباء والفنانين والباحثين والمهتمين، وذلك في “المعرض السنوي لمتحف طه الطه بالرقة”، في الأسبوع الأخير من شهر أيلول من كل عام. ومن أبرز المعارض التي أقامها في السنوات الماضية:
–معرض تحية لعلماء الآثار، كل على حدة، من أهمهم الهولندي مورتيس فان لون، وبيتر اكرمانز، وديدريك ماير (هولاندا)، وأنطون مورتكارت، وتيلو أولبرت، وميخائيل ماينكة، ووينفريد أورثمان، وهارتموت لونة (المانيا)، والدكتور حميدو حمادة، ومحمد المفتاح (سوريا)، وكذلك عالمة الآثار اليابانية يايوئي يامازاكي، والبلجيكي مارك لوبو، والإيطالي باولو ماتييه، والباحثة الفرنسية من أصل جزائري الدكتورة مريم عبابسة، والإسباني كارلوس بورانا.
كما نظم “متحف طه الطه” معارض ولقاءات تكريمية، لعدد من الأدباء والكتاب، والفنانين، منهم: عبدالسلام العجيلي، ومصطفى الحسون، وعبدالرحمن منيف، وليلى العثمان، وغسان كنفاني، وابراهيم الخليل، ونجدت آنزور، وسمير طحان، وحمدو خلوف، وعيسى العاكوب، وعبدالوهاب البيّاتي.
والفنانين التشكيليين مصطفى الحلاج، وأكثم سليمان، وفاتح المدرس، ومحمود شاهين، ودنخا زومايا، ونعمت بدوي، وآكوب جامكوجيان، وبرصوم برصوما، وشريف محرم، وسهام منصور، وناصر نعسان آغا. وكذلك ابراهيم الموسى، وبشير بدوي، وعلي سليمان، وسامي برهان، وعلي هولا، وأحمد معلا. والموسيقي الفرنسي جوليان فايس.
كما نظم معرضاً خاصاً تحيةً للصحفي السوري الراحل سعيد مطر بمناسبة مرور أربعين يوماً على وفاته إثر حادث أليم.
كما عمل على جمع المنمنمات، والحلي، والعملات القديمة، والطوابع البريدية، وأرشفة الصحف السورية اليومية والصحف والمجلات العربية والدوريات.
وأعد الدراسات الببلوغرافية التي رصد فيها تجربة كبار الأدباء والفنانين على مستوى الوطن العربي، كما أنجز عدداً من الموسوعات العلمية التي تهتم بالبيئة الفراتية والشعبية، وله عدة مطبوعات ومئات المخطوطات التي لم تر النور، كما كتب القصيدة اليومية والأشعار وله عدة دواوين مخطوطة منها: “نزيف السأم – حديقة الرغبات – عيون الجوع – طائر السمندل- الخروج من دائرة الصمت – يوميات “هذه المخطوطات كانت نصيبي من ميراث أبي، فقد أوصى رحمه الله بها إليّ .
وأضاف إلى سجل إنجازاته، العمل على جمع الأعمال الفنية والنحتية لكبار الفنانين العرب والأجانب، والتي أصبحت – فيما بعد – من غنائم الدولة الإسلامية، التي حولت منها ما حولت، إلى حُطام ورماد .
لقد كان طه الطه منارة للساحة الثقافية السورية والرقيّة، عمل على مد جسر للمثاقفة بين الشرق والغرب، والثقافة هي أساس رُقي الشعوب وتحضرها، عمل على مزج الماضي والحاضر وإنتاج فن حديث.
لا استطيع اختصار أسطورة بسطور، ولكن أحاول تسليط الضوء على بقعة جار عليها الزمن، وبعد مرور سنين طويلة من الجهد المضني والعمل المتواصل دون راحة أو مقابل، وبعد أن وصل هذا المتحف إلى قمة ازدهاره ونشاطه الثقافي “وهو المتحف الشخصي الوحيد في سورية من عام 1973” انهار كل شيء على يد مسلحي داعش، الذين حطموا كل ما فيه من لوحات، وأعمال فنية وتحف، وأحرقوا الكتب والأرشيف الورقي الأدبي والثقافي الضخم، والوحيد في المدينة، ليصبح رماداً في مهب الريح.
ما جرى لطه الطه ليس قضية فرد وإنما هي قضية تاريخ وحضارة وطن، بتراثه وفولكلوره وآدابه وفنونه ماضيه وحاضره.
وبعد أن تزاحمت الاوجاع والأحزان عليه، احتضن ألمه ووجعه وحده دون رفيق، افترش الحزن بساطاً أسود من خيوط الشجن، وجرحه ينزف من الداخل، إلى أن وافته المنية في مدينة شانلي أورفا التركية، ودفن فيها في 27/ 9/ 2020. في هذا التاريخ السنوي، والذي اعتاد فيه على إقامة معرض “متحف طه الطه” من كل عام.
وأختتم بما كتبه طه الطه في مخطوط “نزيف السأم”:
لا أريد
العيش في المنفى
وإن كان اختياري
وإن كان
في نظر البعض جنة
أشتهي أن أعود
إلى سيباط من
السوس
على ضفة الفرات
وأموت هناك
بين القندريس والشفلح
بئس الأوطان
حين لا تكون
الرقة
مأويَّ الأخير