يدرك شبيحة النظام كبارهم وصغارهم أنهم سيوضعون في قفص الاتهام والمساءلة عن جرائمهم لو تغير النظام، ولكنهم لم يتوقعوا أن السلطة التي انبثقوا منها وعبروا عنها ستقلب الطاولة علي رؤوسهم وتمارس عليهم نفس التشبيح الذي مارسوه على السوريين الآخرين.
وليس مرد مفاجأتهم بانقلاب الأدوار عليهم، لحسن ظنهم بسلطة الأسد، فهم أكثر من يعرف بنيتها وتركيبتها، ولكن المفاجأة تكمن في تقديرهم الذاتي لوظائفهم وأدوارهم حيث اعتقدوا أنهم باتوا بمستوى الشركاء، ولا يمكن الاستغناء عنهم، ليكتشفوا لاحقا مقدار الوهم الكامن في رؤوسهم.
وفيما يتقاطع هؤلاء مع النظام في فكرة استمراره ممثلا ببشار الأسد، إلا أنهم من وجهة نظره، مهما علا شأنهم، ليسوا أكثر من أدوات يمكن استبدالها أو الاستغناء عنها حسب الضرورة التي يبدو أنها باتت ملحة من وجهة نظره وموقعه، ليعمد إلى تهديدهم بالقانون في محاولة منه لإطالة أمد البقاء في السلطة المنهكة ماليا إلى حد العجز.
لكن سرعان ما انكشف الستار القانوني و الإعلامي الذي غطى به بشار الأسد عمليته ضد شركائه واذرعه المقربين منه، فالحركة التي وصفتها دوائر مقربة منه ب ” التصحيحية” في حينه، تم نسيانها بعد انتهاء الزوبعة الإعلامية ليبقى منها إطارها التشبيحي الخالص.

الشبيحة الصغار اولا:
مع استقراره العسكري، وزوال الخطر الوجودي على النظام قبل سنتين تقريبا، بدأ الأسد بحملة على صغار الشبيحة لانتهاء دورهم الوظيفي، مدفوعا بأسباب تتعلق بتحسين صورته داخليا وخارجيا، ولتسهيل حركة البضائع التي يتولاها الشبيحة الكبار، وفي محاولة منه لاستعادة هيبة النظام المركزية، والحصول على موارد إضافية لترميم الاقتصاد الهش معتقدا أن ذلك سيساهم في تسريع عودة العجلة الاقتصادية إلى سابق عهدها، وسيسهم في تأسيس الأرضية الصلبة لإعادة الإعمار وتدفق المال الخليجي والعالمي إلى شركاته وواجهاتها.
غير أن هذه الإجراءات لم تستطع أن تسد عجز النظام المالي، ولم تسهم في استقطاب الاستثمارات الخارجية كم كان مأمولا، وخاصة مع إصرار المجتمع الدولي على ربط عملية إعادة الإعمار بتسوية سياسية مقبولة، كما لم تستطع من جهة ثانية إخفاء عجز النظام عن الاستمرار اقتصاديا خارج الدعم المباشر من حلفائه، وتحديدا في المواد الأساسية كالنفط والقمح.
وبدأ التناقض بين حاجة النظام المتنامية للدعم، وبين تقليص الحلفاء لدعمهم النقدي والعيني ومطالبتهم له باسترداد ديونهم ، للضغط عليه أو الحصول على مزيد من التنازلات، حيث أكدت تقارير دولية وصول الدين الإيراني المباشر لعتبة 16 مليار دولار بالحد الأدنى، فيما يرفع بعضها رقم الإنفاق الإيراني على الأسد ونظامه إلى حدود 35 مليار دولار،أما الديون الروسية فما تزال مجهولة حتى الآن.
الدور على الشبيحة الكبار:
الأبواب المغلقة اقتصاديا أمام نظام الأسد دفعته للاصطدام المباشر مع دائرته المقربة التي طالما شكلت له اقتصاديا خط الدفاع الأول، ليظهر لأول مرة الصدع بين الفرعين المخلوفي والأسدي للعيان، ويمتد ليطال نخبة رجاله وواجهاته الاقتصادية أمثال سامر الفوز ومحمد حمشو ووسيم القطان وغيرهم، ليضعهم الأسد تحت سيف الدفع الفوري لمبالغ كبيرة بغض النظر عن أسباب حاجته للمال، سواء لتسديد ديون روسية عاجلة كما يقال، أو لتأمين القدرة على استمرار النظام ، وعدم وصوله إلى عتبة الانهيار الكامل.
فالمعطيات والأرقام في موازنة العام 2020 و البالغة 4000مليار ليرة سورية، تشير بوضوح إلى انخفاض الإيرادات العامة، عدا عن انخفاض قيمتها السوقية عن موازنة العام 2019 البالغة 3882 مليار ليرة سورية بفارق ملياري دولار تقريبا، وذلك بسبب اختلاف سعر الصرف، كما تشير الأرقام إلى تخفيض النظام لأرقام الدعم الاجتماعي ليشكل نصف دعم العام الحالي، علما أن الموازنة الفعلية وخاصة الجانب الاستثماري منها، هي في الواقع أقل من الأرقام المعلن عنها بسبب التقشف وعدم تأمين التمويل اللازم لها.
لهذه الأسباب لم يجد الأسد حلا سوى تهديد كبار شبيحته الماليين واستنفارهم لنجدة الاقتصاد المأزوم تحت طائلة العقاب لمن يرفض، ضمن صياغة جديدة لمفهوم الولاء السياسي وارتباطه بمدى المغانم المسموح بها، لتصويب الانفلات الحاصل خلال سنوات الحرب.
التشبيح الرسمي والقناع الضريبي
مع نقص موارده، وبالتزامن مع ضرب الشبيحة الصغار، وفي إطار إحكام القبضة الاقتصادية، توجه النظام منذ سنتين إلى التشبيح المباشر بواسطة القانون والإجراءات الإدارية ليطلق يد المالية والجمارك ويسلطها على الطبقة المتوسطة من تجار السوق لتمارس دورها التشبيحي المزدوج عبر التحصيل الرسمي للضرائب والغرامات، وعبر فرض الإتاوات والخوات الخاصة لجيوب الموظفين العاملين في حقلي الجمارك والمالية، وكان التجار قد اشتكوا مرارا وتكرارا عبر غرف التجارة لوزير المالية من ممارسات موظفيه ودوريات الجمارك التي ترفض الاعتراف بشهادة منشأ البضاعة أو تمزق شهادات الاستيراد وتتعامل مع البضائع الموجودة بحكم المهربة.
وفي إطار المعاملات الرسمية أضاف النظام كثيرا من الرسوم المفروضة على شكل طوابع أو ضرائب مباشرة يتم تحصيلها من المراجعين بشكل مباشر، حيث تحولت الدولة بكاملها إلى أداة جباية.
وفي النهاية، لم تأت عملية إغضاب الشبيحة الصغار أولا، ثم الشبيحة الكبار لاحقا، في ظل تنامي الاقتصاد السوري وازدهاره، وتحسين الواقع المعيشي للمواطن على العكس تماما يأتي بالتزامن مع انهيار الاقتصاد السوري وإفقار الطبقات الشعبية الموالية وغير الموالية، الأمر الذي يفقدها أي تعاطف شعبي، ويرفع عنها قناع الإصلاح الرسمي، ويضعها في مسار تفاقم الوضع الاقتصادي، ما يزيد الهوة بين النظام وحاضنته الشعبية التي باتت ترى بكل المقاييس أن نظام الأسد لم ينكث بوعوده فقط، لجهة تحسين حياتها، وإنما بات يستنزفها ماليا ويحملها أعباء استمراره، ويمارس التشبيح عليها ، أيضا.