هيثم حسين: المنفى: بوصلة الحلم وبحر الخيبات

0

مجلة أوراق- العدد9

ملف منفى الحسرات والمسرات

هل الغريب هو ذاك البعيد عن مسقط رأسه ومسرح ذكرياته أم هو ذاك المنفيّ في ذاته؟ ألا يكون المنفى المكانيّ تحصيلاً حاصلاً لذاك المنفى المستديم الذي كان يعشّش في روح صاحبه؟ هل يمكن ترويض المنفى من خلال الزعم بالاندماج المفترض وتناسي ما كان بحثاً عن الممكن المحتمل؟ هل حقّاً اللغة هي مفتاح البلاد الجديدة أم أنّ هذا من أوهام اللاجئين لا غير؟

حين تسكن الغربة وجدان المرء فإنّها تبقيه بعيداً عن واقعه، بعيداً عن التأقلم مع محيطه، غريباً في حلّه وترحاله، غير قادر على الاستدلال إلى سبيل لتهدئة قلاقله ومخاوفه المتجدّدة، تخرجه عن سياقه الاجتماعيّ المفترض وتضعه على سكّة معتمة قوامها الأسى المتعاظم.

لا ترتبط الغربة بمكان بعينه أو زمان محدّد، بل تكون ملازمة للإنسان سواء كان في بيته، أو بلده، أو في منفاه أو ملجئه أو مهجره… ولا أعتقد أنّ تسميتنا للمهاجر ببلاد الغربة تكون دقيقة في أكثر الأحيان، ذلك أنّ الغربة التي تشير إلى البعد عن الوطن، وتحيل إلى مفارقة الأهل والأحبّاء والأصدقاء الموجودين في الوطن، تتبدّد في حالتنا السوريّة الراهنة، ولاسيّما مع تعاظم أعداد المهاجرين واللاجئين في “بلاد الغربة”.

كانت بلادنا المحتلّة من قبل العصابة الأسدية الحاكمة للأسف بلاد الغربة البغيضة لأنّها كانت تعدّ إقطاعة يسرح فيها الطاغية وأذنابه، وقد وصل بهم الأمر إلى تدميرها وتشريد الملايين من أهلها، وذلك بعد رفع شعارهم المدنّس: “الأسد أو نحرق البلد”. هذا الشعار الذي التزموا به على عكس عادتهم في رفع الشعارات الباهتة والمتاجرة بها لتحقيق مآربهم في إدامة السيطرة والتحايل على الناس.

كثيراً ما كنت أشعر بالغربة في بلدي، وبين أهلي وأصدقائي، كانت القراءة وسيلة للتصالح مع ذاتي، بالموازاة مع الكتابة التي كانت دليلي وسبيلي لتبديد جزء من غربتي التي كانت تتفاقم يوماً بيوم. كانت كتابة كلّ كتاب أو مقال تحدّياً ومجازفة ومواجهة للمحتلّ المتقنّع بأقنعة النظام وشعارات البؤس اللعينة، لدرجة أوصلت الناس ليعيشوا غربة مفجعة وهم بين ذويهم وفي بيوتهم، وصحّ عليهم قول الشاعر: “أغرب الغرباء منَ يكون غريباً بين أهله”.

باتت الغربة متلازمة السوريّ في بلده ومهجره، يعاني مراراتها التي تبقى مدمّرة لكيانه وروحه، وبرغم محاولات التكيّف والتأقلم مع ظروف حياته الجديدة في ملجئه، إلّا أنّه يحاول تصميم ركنه الأثير فيها، ذاك الركن الذي يعيد فيه هندسة جزء ممّا فقده في بلده، جزء من بيته، يبقي ذاكرته مستعرة كسبيل للحماية والاستقواء في مواجهة قسوة الزمن. 

النظام الذي سعى إلى تغريب السوريّ عن وطنه استكمل سلسلة إجرامه بحقّ مستقبل البلاد، بحيث لم يخلق طيلة حكمه لعقود انتماء للوطن بالمعنى الحقيقيّ، بل حرص على اختصار الوطن في شخص الطاغية، وتقزيم الوطن من أجل تعظيم الطاغية الذي شوّه مفهوم الوطنية والانتماء والولاء، وكان القول الإجراميّ المفتّت للوطن: “أنا الوطن والوطن أنا”، ثمّ تنسيب البلاد له وكأنّها كانت بوراً وصحراء قاحلة قبل استفراده بها.

أشياء بسيطة تشعر المرء بالغربة القاهرة، تلذع روحه وتجلد كبرياءه، من ذلك مثلاً أن يذهب في زيارة قصيرة قريبة لبيت أحد الأهل والأصدقاء القريبين منه لاحتساء فنجان قهوة، وتمضية ساعة للحديث عن شؤون الحياة وشجونها، وتبادل أحاديث بسيطة بعيدة عن الأخبار والسياسة، لكن ذلك في “بلاد الغربة” نوع من الأحلام العصية على التحقّق، أحلام تشطر قلب الحالم المغترب.

الغربة الحقيقيّة تتجلّى في وجه من وجوهها لدى المرء حين يكون محروماً من أبسط حقوقه في الحياة، في التعبير بحرّيّة، في التمتّع بالمواطنة وحقوقها المشروعة الواجبة، في إبداء الرأي في القضايا المصيرية، وحتّى في تلك التفاصيل الصغيرة التي قد يزعم البعض أنّها لا تشكّل شيئاً في دورة الحياة. 

الغربة الحقيقيّة التالية ربّما ستتجلّى في تبلور ذاكرة مختلفة للأبناء مختلفة عن ذاكرة الآباء، سيغدو للغربة جيلها الذي تشكّلت ذائقته وذاكرته وذكرياته بعيداً عن الوطن، سيصير المنفى وطناً للجيل الجديد، وسيشعر أبناؤه بغربتهم عن آبائهم حين يشتاقون لمكان يجدونه بعيداً عنهم، يعتبرونه منفى لهم غير قادرين على التفكير في العيش فيه، لأنّهم وجدوا أنفسهم ملفوظين، أو مولودين خارجه. سيبكي الآباء ماضيهم ومستقبلهم متشبّعين بالغربة والمنفى، بينما ستكون مراراتهم وذكرياتهم بالنسبة للأبناء غريبة، وقد تدعو إلى الرثاء أحياناً. ربّما هذه الحالة تعدّ وجهاً من وجوه الغربة الحقيقيّة، وصيغة منفى متجاوزة للأجيال.

كانت غربتي الصاعقة لروحي حين كنت أعيش في المكان الذي كان يفترض أنّه بلدي، وكان النظام يتعامل معنا كقوّة احتلال واغتصاب، يحرمنا من التحدّث بلغتنا، من الكتابة والقراءة بلغتنا، يعمل على محونا وتهميشنا وتغريبنا ودفعنا إلى الهروب أو الإذعان والرضوخ لسياساته القذرة.

كثيراً ما أفكّر في بلدي ومدينتي، وحين أسأل عن احتمال عودتي، فإنّني أجد نفسي لاغياً الاحتمال فوراً، لا لعدم رغبة في العودة، بل لأنّ تلك العودة المفترضة ستكون بمثابة رصاصة رحمة لي، ستقضي على ما احتفظت به من جماليات وذكريات عن الأمكنة والأصدقاء الراحلين. أوقن أنّني سأصادف مكاناً مختلفاً عن ذاك الذي احتفظت به في ذاكرتي وقلبي ووجداني، وستكون غربتي مضاعفة، لأنّ بوصلة الحلم ستتشتّت وتضيع في بحر الخيبات.

لم تكن هناك حرمة لأحد في “الوطن”، حتّى الوطن نفسه كان مستلباً مغتصباً منهوباً. في الملاجئ، يستدلّ المرء إلى إنسانيّته المهدورة، وبرغم أنّ قهره يكون بصيغة أخرى، ويبقى مسكوناً بمخاوفه ووساوسه، إلّا أنّه يتحرّر من مخاوف قاتلة، كأن يداهم منزله بعضهم في منتصف الليل، أو في الفجر، أو في أي وقت آخر من دون استئذان، لأنّ هذه الممارسات الهمجيّة خاصّة بـ”الوطن” المسلوب، وليس ببلاد الغربة.

يحمل الغريب وطنه في قلبه ويمضي إلى غده، يحاول أن يتكيّف مع محنته المتمثّلة في البعد عن مكانه الأثير وذكرياته فيه عبر تطويع المكان الجديد وهندسته بطريقة تحفظ له توازنه النفسيّ، وتهيّئه للتصالح مع ذاته ومستقبله. ولا أشكّ أبداً أنّ البلاد التي تحفظ للمرء كرامته وتشعره بإنسانيّته هي وطنه الحقيقيّ، لا ذاك المكان الذي يريق دمه ويهدر كرامته ويبقيه نزيل الإذلال الممارس بحقّه.

يبدو أنّ الغريب سيبقى مريض الوطن الذي لا شفاء له من حنينه الذي يكون جمراً تحت رماد الذكريات وتفاصيل الحياة اليومية… مرضُ الوطن قد يصبح مرضَ العصر الجديد بامتياز!

ترك الرد

Please enter your comment!
Please enter your name here