نجم الدين سمّان: جسرٌ مُعلَّقٌ بِأهدَاب الحَنِين

0

  1.  سكاكين الكلمات.

ما الذي قد تغيَّر بعد ثلاثِ عواصمَ ومدينةٍ منسيّة في الشرق الفرنسي؟!.

ها أنا ذا غريبٌ في تغريبتي.. كما كنتَ في وطني!.

حتى لكأنِّي ما زلتُ جالساً إلى طاولتي الزرقاء في غرفةٍ بسقفٍ واطئٍ في “حارة البُولاد – زقاق سَدّ – حيّ: باب توما” والطاولة تُلامِس خشبَ نافذتي الصغيرة؛ بدَرفةٍ واحدة؛ وليسَ غيري.. مَن يُثنِّها؛ لكنها مفتوحة.. على ما أعبرهُ مِن أضيقِ العيش إلى أوسع الحُلم.

ما الذي تغيَّر بعد تسع سنواتٍ من تغريبتي؟!.

ما زلتُ جالساً إلى.. ذاتِ الطاولة؛ وينفتح الشبَّاكُ أمامي؛ ليسَ.. على الجزائر العاصمة؛ ولا على.. ضجيج القاهرة؛ ولا على.. مآذن استنبول؛ ولا على.. كنائسِ بيزانسون.

ما زلتُ أسمعُ أجراسَ “كنيسة الكلدان” يتردَّدُ صداها في حنجرة مُؤذنِ الجامع القريب؛ ممزوجاً بالأغنيات الجارحة تصدَحُ من النادي الأرمنيّ؛ وليس هذا حنيناً؛ حتى لو أنه يُشبِهُ.. الحنين؛ بل.. لأن شيئاً لم يتغيَّر في داخلي.. سوى أن المصباح الأخير في حارة البولاد؛ فوق نافذة غرفتي تماماً؛ كان شاحباً جداً.. في ليل الاستبداد المُقِيم؛ ثم جاء طفلُ.. فكسَرَهُ؛ برميةِ جحرٍ واحدةٍ.. صارخاً:

– سوريا لينا.. مو لبيت الأسد.

فاستفقتُ من حنيني.. لأجدَ قلمي وأوراقي على الطاولة الزرقاء.. ذاتِهَا؛ ثمّ صعد الطفلُ الذي في الحارة؛ كم يُشبه الطفلَ الذي مازال فيَّ؛ وما شابَ شَعرُهُ.. مثلي؛ حتى لكأنَّهُ توأمُه؛ فاستبدلَ مصباحَ الاستبداد الشاحب؛ بجَمرةٍ من شمسٍ صغيرة؛ تدحرجت من صخرةٍ في قمة قاسيون.. عابرةً فضاء الأمويّ حتى كنيسة حنانيا.. لتُضيء قلبي من جديد.

لا شيءَ تغيَّر.. سوى أن قلمي وأوراقي أمامي؛ ثمّ لم يَعُد في قرطاسي سوادُ الحِبر؛ حتى صرتً أغمِسُ ريشتي في الدم..

يا لَدَمِنا السوري.. وقد فاضَ من مَحَابِرِه.

2- مخرز خالتي

قبل أن التحق بجامعة حلب.. أهدتني خالتي “ليفةَ حَمَّام” أنجزتها بمخرزها من خيوط القطن.

انتقلت الليفةُ معي من إدلب إلى حلب؛ ثمّ إلى حمص طوال فترة الخدمة العسكرية الالزامية؛ ثم.. إلى دمشق.

وفي منتصف 2012.. وضعتها في حقيبة تغريبتي الأولى نحو الجزائر؛ قبل صدور قرارٍ بمنعي من السفر؛ ماتت خالتي وأنا في تغريبتي؛ بينما تنقلت ليفتُها معي إلى القاهرة؛ ثم إلى استانبول؛ ثم الى تغريبتي الرابعة في فرنسا؛ وما تزال صامدةً.. مثلي؛ وأظنُّها ستبقى.. بعدي.

ها هي الآن.. تمدّ لسانها لي وتقول:

العينُ يُمكنها أن تُقاوم مخرَز الزمان وغُربة الأمكنة.

  •  شكراً حُماةَ الدِيَار..

أخبرني جاري.. قال: – حَولَ بيتكُم في الشام.. خمسُ دباباتٍ مع أطقُمِهَا من الفرقة الرابعة للحرس الجمهوري؛ اطمئنّوا.. بيتُكُم آمِنٌ. جاري من مُؤيّدِي النظام ويَنسِبُ للعصابات الارهابية المُسلَّحة كلَّ فِعلٍ شَائنٍ يحدث في سوريا؛ بما فيه.. القَصفُ بالأسلحة الكيماوية.

حاول جاري الاطمئنان على بيتنا؛ فَمَنعَهٌ الضابِطُ المُقَاوِمُ/ المُمَانِعُ: – لا تصعد.. نخافُ عليكَ مِن قنَّاصَةِ الإرهابيين في داريَّا الإرهابيّة.

ثُمَّ رَحَلَ الضابط مع دبَّاباته وسيارات الشحن العسكرية بعد أن قصَفوا ما تبقّى من مدينةِ داريّا وبشكلٍ محمومٍ لمدَّة شهرين؛ وحينَ رحلوا.. رأى جاري طَرَفَ لوحَةٍ لي في سيارة الزيل العسكرية. صعد الجار الى بيتنا ليطمئن عليه؛ ثم قال لي في اتصالٍ عبر الواتس: – عَوَضكم على الله يا جار؛ لم يتركوا لكُم من بيتكم شيئاً. فكّوا الحنفيات والخلّاطات والابواب الداخلية.. أخذوا حتى الستائر؛ حطّموا الصحون التي لم ترُق لهم.. لكنهم احتفظوا بشاشة الباناسونيك؛ حطّموا خِزَاناتِ المطبخ والأسِرَّة والنوافذ…

كان جاري يلهثُ وهو يشرح لي؛ قلت له ساخراً:

– بيتنا واحدٌ فقط.. من ملايين بيوتِ السوريين المنهوبة.

فسَكَت ولم يَرُدّ.. لِوَهلَةٍ تعاطفتُ معه؛ حينَ لم يستطِع تسويقَ روايته المُعتَادَة منذ عامين عن عصابات الشعب السوري الارهابيّة؛ لكنّه قالَ بعدَ صمتٍ:

– حُمَاةُ الدِيَار حطّموا الطاولة التي تكتب عليها؛ رأيتُ أثاثكُم في سياراتهم؛ لكنهم تركوا الكتب متناثرة في كل ركنٍ.. بعد أن داسوا عليها.

قلتُ لِجَاري: – كانَ الطُغَاةُ يُجِيدُونَ القراءة؛ لكنهم يكرهونَ الكتبَ.. فيحرقونها؛ الطُغَاة الجُدُد الصِغَار.. لا يَعرِفُونَ حتى القراءة.

  •  انسحاب النكسة ال… كَيفِي

أولُ ما أدركتُه.. أنِّي شاركتُ في دهانَ شبابيكِ بيتِنا باللون الأزرق في نكسة حزيران/ يونيو 1967؛ حتى لا ترى الطائرات الاسرائيلية لمبتنا الصفراء الشاحبة فتقصفها و.. تقصفنا؛ ثم جاء ابن عمتي وقد فَقَدَ نِصفَ وزنِه؛ بعد أمرٍ من وزير الدفاع حافظ الاسد بالانسحاب الكيفيّ وترك كلِّ المدافع في كتيبته على أرض الجولان بما في ذلك سلاحُه الفرديَ؛ وفي الأمرِّ الأسديّ.. أيضاً: أن يستبدلَ كلُّ جنديٍّ ثيابَه العسكرية بغيرِها في أسرع وقت؛ حتى لا يقع أسيراً عسكرياً في يد الأعداء الصهاينة!..

تاهَ ابنُ عمتي طويلاً في شِعَاب الجولان؛ حتى أعارَهُ راعي أغنام “كلّابيةً”؛ ودَلَّه على الطريق.

خلال التِيهِ الكيفيّ.. أكلَ من أعشاب الأرض حتى أصيب بإسهالٍ شديد؛ وقد دقّ بابَنا بعد أسبوعٍ؛ وفتحتُ الباب فإذا هو بجلابيَّة الراعي وبذقنٍ خشنة.. فلم أعرفه؛ قلتُ: – مين بدّك يا عمّو؟. فأُجهش بالبكاء وخرج والدي فعرفه وأدخله.

لُمتُ نفسي لأنّي لم أعرفه؛ اعتذرتُ له حين خرجَ من الحَمَّام وقد لبس إحدى بيجامات أبي؛ وضحك أخي عامر لأنّ بِنطَال البيجاما كان قصيراً عليه؛ حتى لكأنَّهُ “شورت” فوج الكشّافة القريب من بيتنا؛ قال ابن عمّتي:

– تركنا المدافع مع طلقاتها؛ لم نُطلِق قذيفةً واحدة؛ هزمونا بسِربِ طائراتٍ وبستِ ساعاتٍ فقط؛ ثمّ هزَمَنا وزيرُ دفاعنا حين قال للجيش: انسحبوا كيفياً.

ثمّ أردف: – بقيتُ أحوم حول الكتيبة 3 أيام بعد أن غادرها كلُّ الضباط وصفّ الضباط والجنود في انسحاب كمّيٍ وكيفيٍ معاً؛ كانت “جَبَّاتا الزيت” أقربَ قريةٍ لكتيبتنا؛ لقّمتُ أحدَ المدافع وحدي؛ قلتُ لنفسي؛ لو أنّ جندياً اسرائيلياً واحداً جاءَ من ناحية “جَبَّاتا الزيت” فسأقصفه؛ وطوال ثلاثة أيام لم يأتٍ احدٌ بينما أُحدِّقُ في خط الأفق؛ نمتُ واستيقظتُ وبكيتُ وحدي.. كيف انهزمنا هكذا كيفيّاً؟!؛ لو أننا قاتلنا ثمّ انهزمنا.. لكانَ في ذلك بعضُ العزاء.

قالها ابن عمتي وهو يجهش بالبكاء من جديد؛ وأنا كنتُ في الثامنة من عمري وقتها؛ ولم اكُن قد رأيتُ رجلاً يبكي؛ فخرجتُ الى باحة الدار وأنا أشعر بالاختناق.. وبالعار الذي كان يُبكِي ابنَ عمّتي؛ وفي عَتمةِ أرضِ الدار رحتُ أبكي.. وحدي.

  •  الجسرُ المُعلَّق.. بِأهدَاب الحَنِين.

حين صار ابني في الخامسة من عمره؛ اُخذتُهُ من بيتِ جَدَّه في الشيخ ياسين؛ مشياً على الأقدام حتى الجسر المعلّق.

كنا نقضي إجازة العيد عند بيتِ جَدَّته في دير الزور؛ والهواءُ يَرمَحُ مِن أراجِيحِ العيد؛ والأحصنةُ تمضي بالأطفالِ إلى عيدهم: وأصواتُ المُفرقعات والألعاب النارية وصياحِ البَاعَة.. ما أن انعطفنا نحوَ الجِسرِ حتى تبدَّى صوتُ النَهرِ كبٌحّة نايٍ من قَصَبِ ضفّتَيهِ؛ وتنهّدَت فينا.. رطُوبَتُه؛ فما كِدنَا نَصِلُ إلى مُنتصفِ الجِسرِ حتى أحسسنا بهِ يَتَأرجَحُ أو يَمِيسُ.. كما لو أنه ريشةُ نَسرٍ في فَضَائَينِ من زُرقةِ الماء وزرقة السماء؛ وليسَ مِن شِيمَةِ الحديدِ الرَهَافَةُ.. إلّا في هذا الجِسر.

أمسَكَ ابني بيديهِ الصغيرتين قُضبَان الحاجز وأنا أُحِيطُهُ بِذِرَاعَيّ؛ انحنيتُ هَامِسَاً لهُ:

– لك نفسُ اسمِ النهر.. فسَلِّم عليه.

لوّح فٌرَاتٌ لِفُرَاتٍ بأصابِعِه الغَضّةِ: – مرحبا.. يا نهر.

وضَحِك.. كَمَا لو أنّهُ رأى نَفسَهُ في مِرآةِ الماءِ.. عذباً فراتاً يُلوِّح بالتحيةِ.. لِعَذبٍ فٌرَات.

ثمّ صَمَتَ.. مُستَغرِقاً في موجاتِ الماءِ.. مُنسَابةً كالدلافين؛ وهي تَعبُرُ الجِسرَ حتى لكأنّها تَعبُرُ.. مِن بَينِ قدميهِ الصغيرتين؛ فخَشِيتُ عليهِ مِن دُوَارٍ.. يُصيبُ الناظِرَ إذا حَدَّقَ طويلاً مِن جِسرِ على نهرِ؛ لكنّ فُراتاً.. قال لي:

– ايمتى رَح صير كبير.. متل هالنهر.

تذكرتُ سؤالَ فراتٍ الصغير.. وأنا أرى صُورَ الجِسرِ المُعَلَّقِ بأهدَابِ الحَنِين؛ وقد قَصَفَتهُ قذائفُ الطاغية.

ما حاجةُ طاغيةٍ إلى ذكرياتِ الناسِ المُعلَّقةَ بِرَهافَةِ جسرٍ من حديد؛ ما حاجةُ طاغيةٍ إلى مشاويرهم المسائيّة؛ وإلى غَمزاتِ الشباب للصبايا.. وهُنَّ يَعبُرنَهُ ضاحكاتٍ؛ ما حاجةُ طاغيةٍ إلى الاطفالِ يَصعدُونَ إلى آخِرِ البُرجِ.. مُتبَاهِينَ بِقُدرتِهِم على الغَوص؛ ما حاجتُهُ.. للأسماكِ؛ وللأشجارِ؛ وللبَطِّ يبحثُ عن مكانٍ لأعشاشه بين نباتات الضِفّتَين، وللسفنِ الصغيرة؛ ولِقَصَبَات ِالصيّادين؛ ولِلجُزُرِ/ الحَوِيقَات.. يُحِيطُها النهرُ بمائِهِ مِن مَفرِقِ جَدَائِلِهَا الى جذور القدمين؛ و ِلمقاهِي/ الجرَادِيق.. على ضفّتيهِ يَسمَرُ فيها ويَسهَرُ الناس..

الطاغيةُ عَدُوُّ ما عِشنَاهُ وما يَعِيشُ فينا: وسيعتبرُ الجِسرَ المُعلّقَ.. مُجرَّدَ أطنانٍ من الحديد؛ لِيُعاقِبَنَا على حُبِّنَا لِكُلّ ما يَكرَهُه.

– إيمتى رَح صِير كبير متل.. هالنهر؟.

صِرتَ كبيراً يا فرات.. كَبُرتَ في الغُربَةِ مثلَ نهرٍ؛ وقد حملتَ اسمَهُ؛ وجِسرَهُ المُعلّق بأهداب الحنين.. في عينيك؛ ولا أعرف إذا كنتَ ستعودُ يوماً؛ لِتُشارِكَ في بِنَاءِ جِسرِ نهركَ.. من جديد.

فقرات من كتابٍ قَيدَ الكتابة: سكاكين الذاكرة

تنشر بإذن خاص من الكاتب

ترك الرد

Please enter your comment!
Please enter your name here