عنوان المقال ليس من تأليفي للأسف، فهو مقتبس من كتاب رائع للكاتب المغربي عبد الفتاح كليطو بعنوان: أتكلم كل اللغات ولكن بالعربية. وهو بدوره عبر أسفه في مقدمة كتابه أن هذه العبارة الرائعة ليست من تأليفه، بل مقتبسة من أصلها الأقدم الذي ورد على لسان فنانة من براغ في يوميات كافكا: أتكلم كل اللغات ولكن باليديش.
لم أدرك أهمية هذا الكتاب إلا عندما بدأت أتكلم الفرنسية كلغة بديلة للتفاهم أثناء العيش والعمل. وعندها فقط بدأت رحلتي الاستكشافية لطريقتنا في الكلام والتعبير الشفهي. سبق لي أن تكلمت الإنكليزية ولكني لم أعان كما أعاني الآن. لأنها كانت كلها تجارب مع غير أصحابها الأصليين. وقد صادفت بالتأكيد انكليز أو امريكان ولكن لم تكن التجربة في ملعبهم، وكذلك لم تكن في سياق العيش الدائم معهم كي يتاح لي ليس التعرف جيدا على طريقتهم في الكلام فحسب، بل أيضا التعرف على طريقتنا نحن في التعبير الشفهي.
طريقتنا في التكلم يؤثر على طريقتنا بالتكلم باللغة الأخرى وهنا بيت القصيد. يفرق عالم اللسانيات دي سوسير بين اللغة واللسان والكلام. ويعرف الكلام بأنه كلُّ ما يلفظه أفراد المجتمع المعين وما يختارونه من مفردات وتراكيب ناتجة عما تقوم به أعضاء النطق، بالاعتماد على المعرفة المشتركة لدى الجماعة اللغوية المعينة. أنا أعشق لهجتي السورية العامية ولكني لم أدرك فقرها إلا عندما خضت في هذه التجربة الجديدة، عندما راقبت ما أعانيه منها أثناء التعبير عما أريد قوله في كل لحظة من لحظات تبادلي لغة الحياة والعيش مع الفرنسيين.
من النافل القول بأن اللهجات تختلف بين مدينة وأخرى، لأنها تعاني كلها من الفقر المدقع بالمفردات، وتبقى كلها على اختلافها موضوع البحث هذا. رغم ذلك مازلت أحب العامية السورية ولن أتركها أبدا لأني لا أجيد التعبير عن نفسي ومشاعري إلا بها. وهذه معاناة أخرى تؤثر على مدى عمق علاقاتنا الصداقية مع الفرنسيين وحتى مع العرب من غير السوريين، وسأترك التوسع في هذا الجانب إلى مناسبة أخرى.
الكلام والكتابة ساحتان مختلفتان، هناك تبادل
بينهما بالتأكيد، ولكنهما مهارتان مختلفتان، فالتكلم علاقة اجتماعية مباشرة بين
البشر فيها متكلم ومستمع. بالإضافة الى أن التكلم بطلاقة والاندماج الشفهي بموضوع
الحديث يتم عبر آلية عفوية وغير واعية يدخل فيها اللاوعي واللا شعور على نحو كبير،
لذلك يشارك فيه كل المخزون الذهني والنفسي والشعوري للفرد. وهذا الأمر يؤدي إلى
ظاهرة غريبة، وهي أنه عندما تتطور لغتنا الأجنبية ونبدأ بالتحدث فيها بطلاقة نرتكب
بعض الأخطاء التي لم نكن نرتكبها في مرحلة مدرسة اللغة الأجنبية.
سأعرض هنا في سياق التعرف على أدائنا الشفاهي في كل اللغات، بعض من معاناتي ودهشتي، وكذلك بعض الاكتشافات الممتعة التي من الممكن أن يستمتع بها ويفهمها السوريون الذين عملوا في مجتمعات المغترب، في مجال عمل بعيد تماما عن اللغة العربية. ولذلك آمل أن يشاركوا بها عبر نقل تجاربهم ومعاناتهم في سياق الحياة اليومية باللغة الأجنبية. وسوف نستفيد ونستمع بتبادل الخبرات هذا لأن هناك الكثير من النكات والضحك تتسبب بها أخطاؤنا الشفهية في سياق حياتنا باللغة الأجنبية.
لست باحثة أكاديمية في اللغات فقد درست الهندسة، ولكن كان يستهويني دائما البحث عن أصل الكلمات والمقارنة بين اللغات واللهجات. اكتسبت هذه الهواية من أبي الذي كان بدوره صيدلانيا وليس لغويا مختصا. إذن سأكون في بحثي هذا هاوية فحسب. وكذلك سوف أشعر بالحميمية في سياق ذلك، لأن أبي سوف يرافقني فيه، وكنت أضبط نفسي طوال الوقت أثناء قراءة كتاب كليطو، وأنا أقول له: ينبغي أن تقرأ هذا الكتاب يا أبي فسوف يعجبك كثيرا. و يا للأسف فقد توفي أبي قبل كتابته بزمن طويل.
لا أنتمي الى أي من الفريقين الشهيرين، ولست مع الحوار الأزلي العقيم بينهما، أقصد الفريق المتعصب للغة العربية الفصحى من جهة، والفريق الذي يرفع من شأن اللهجة العامية الى مصاف اللغة البديلة من جهة أخرى. مسألتي ليست هنا وأعرضها بدون أي ميول فكرية وأحكام مسبقة.
رغم أن موضوع كتاب كليطو لا يعبر عن مشكلتنا ذاتها تماما، لكن هناك صلة وثيقة بين موضوعه ومشكلتنا التي نعاني منها أثناء التكلم باللغات الأجنبية. تلك الصلة التي تتجسد في قوله: “لم أتكلم سوى اللغة العربية حتى السابعة من عمري…. تعلمت الفرنسية لأكتبها وأقرأها لا لأتكلمها”. ونحن أيضا تتمثل مشكلتنا بأننا تعلمنا اللغة العربية الفصحى كي نكتبها ونقرأها لا لكي نتكلمها. وبالتالي أتت مشاكلنا عند التكلم باللغة الأجنبية من لغتنا المحكية.
أعتقد أن ما سأدرجه هنا من مطبات لا يقتصر على عاميتنا السورية، ولكن يمكنها أن تنطبق على كل لغة أم محكية تختلف عن لغة المدرسة الابتدائية أي لغة القراءة والكتابة، مثل الكردية والشركسية والأمازيغية والآرامية والسريانية والأشورية…. الخ. فلغة الفرد وقدرته على التعبير بها شفاهيا تتطور بالدراسة، وتصبح لغة المدرسة الابتدائية هي اللغة الأم الثانية التي سوف تطغى على الأولى مع التقدم بالدراسة بها. في حين تبقى لغة الأم الأولى على حالها ولا تتطور لأنها لا تستعمل أثناء الدراسة. وكل المفردات الجديدة التي يكتسبها الطفل سوف تكون بلغة المدرسة، وبها يدرس العلم والمعرفة والثقافة، وتصبح هي اللغة الأم ولغة الابداع الأدبي والكتابة، مهما تكن لغة الأم الأولى للأديب أو الكاتب أو المفكر.
أعتقد أننا نعيش في حقبة التأسيس السوري الجديد. لذلك يعنينا تعميق دراسة هذا العائق الكبير، أقصد الفارق الكبير بين لغة الكلام ولغة الكتابة في حياتنا، وانعكاس ذلك سلبا علينا، سواء في بلدنا الأصلي أم في المغترب. ولن أذكر المفردات الفرنسية التي نخطئ فيها، بل سأستعيض عنها بمفردات اللغة العربية الفصحى لأنها موجودة فيها على عكس عاميتنا. وسوف تكون بذلك المقارنة متاحة ومفهومة لمن يتكلم بلغة أجنبية أخرى غير اللغة الفرنسية.
المعاناة الأولى:
قبل أن أنخرط بالعمل في فرنسا طلبت من مدرسة اللغة الفرنسية دروسا خاصة على الشكل التالي: أن أتكلم أنا نصف الوقت وتسجل هي ملاحظاتها ثم تقوم بتصليح أخطائي في النصف الثاني من الدرس. كانت أهم ملاحظة هي أني أستخدم فعل “أفعل” بدلا من كل المفردات المتعددة التي تعبر بشكل دقيق عن الفعل. وقالت لي هذا طبيعي نظرا لنقص المفردات عندك. ولكني ضبطت نفسي فيما بعد كثيرا أني أعرف هذه المفردات، وهي مفردات سهلة أصلا ولكني لا أستخدمها أثناء العيش وأثناء الكلام المباشر العفوي بدون تفكير أو تحضير. وهنا اكتشفت أني أتكلم اللغة الفرنسية بالعامية السورية تماما.
نحنا بالسوري منقول: بدي أعمل دورة، بدي اعمل طبخة، بدي اعمل قيلولة، بدي اعمل مشوار، ….الخ
والمفارقة أن فعل “أعمل” لا نستخدمه في مكانه الأصلي بل نقول بدي اشتغل وفعل اشتغل نستعمله
للأشياء أيضا مثلا:
أنا بشتغل، والبراد بيشتغل، والموبايل بيشتغل، والرز ما بيشتغل مع البصل، ………الخ مرة سألت صديق فرنسي باللغة الفرنسية تحت تأثير منطق لغتي العامية: بيشتغل موبايلك في سورية؟ ضحك طويلا ثم قال “لا انو مضرب عن العمل”
المعاناة الثانية
في لغتنا العامية، على عكس لغتنا العربية الفصحى، نستخدم المفردة ذاتها في التعبير عن الحواس وعن الفعل الذي تقوم به هذه الحواس. وكذلك لانفرق في عاميتنا بين فعلي أعرف وأعلم. وهذا ليس فقرا لغوي فحسب بل يتولد عنه خلل منطقي في حديثنا يجعلنا مضحكة حقيقية عندما لا نفرق بينها أثناء التعبير عن أفكارنا في اللغات الأخرى.
نحنا بالسوري منقول: أنا بشوف بعيني اليمين أكتر من عيني اليسار، وأبي ما بيشوف منيح، ومبارح شفت فلم حلو. وشوف هالمنظر شو حلو، أمي ما بتسمع منيح. وماتحكوا عليي أنا عم اسمعكم…الخ
يمكننا تخيل الأمر جيدا ومعرفة لماذا لا يفهم علينا الفرنسيون، عندما نحاول استخدام المفردات ذاتها باللغة العربية الفصحى فهي تحتوي على المفردات المتنوعة تلك، والتفريق بين معاني كل منها واضح فيها، ولكننا نكتبها ولا نتكلمها يا للأسف. كأن أقول لطبيب الأذنية: أمي لا تنصت جيدا. أو لطبيب العيون: أبي لا يشاهد جيدا. وكذلك عندما نقول لشخص ما: أنا أعلمك جيدا فقد كنا في الجامعة معا.
المعاناة الثالثة:
على الرغم من أن استخدام أحرف الجر الصحيحة هي من أصعب المهارات عند التكلم باللغة الأجنبية عند كل الشعوب، ولكننا نحن السوريين معاناتنا مضاعفة إذ أننا نستخدمها بالعامية السورية على نحو غريب حتى بالنسبة الى لغتنا العربية الفصحى.
نحنا بالسوري منقول:
أهلين فيك، كنا عم نحكي عليك، روح من خلقتي ………الخ في الواقع نحن نعبر عن كل ذلك بالطريقة ذاتها، نعبر بالعامية السورية أثناء العيش باللغة الأجنبية ونخطأ ونحرج أو نضحك.
أخيرا يمكن التنويه على أنه توجد هناك مفارقات أخرى كثيرة نعاني منها أثناء العيش بلغة أخرى، والكثير منها يأتي من مشكلة أكبر، وهي اختلاف منطق اللغتين، فكما يقال أن كل لغة جديدة هي عقلية جديدة. وهذا ما حاول عبد الفتاح كليتو شرحه في كتابه أيضا، فهو يؤكد بأننا جميعا نتكلم اللغة الأجنبية بمنطق لغتنا التي تربينا عليها حتى السابعة من عمرنا.
*خاص بالموقع