لا جدل حول ما تعنيه كلمة الفيلسوف من دلالات التأمل في الذات والانقطاع في تدبر الكون والإخلاص لهما من أجل فهم الفكر نفسه كنشاط بشري لا تقليد فيه ولا إدعاء أو مزايدة لغاية أو غايات يُخطط لها أو بمناهج توظف للوصول إلى تلك الغايات؛ بل هو الانتفاع المقصود بماهيته، والمعرفة التي لها ما يسبقها لكن هناك ما يضادها من بعدها.
من هنا لا يشبه فيلسوف فيلسوفاً آخر ولا تُقلد فلسفة فلسفةً أخرى، والفارق جوهري بين الفيلسوف الذي لا تحده النظريات ولا تقيده، وبين الباحث الذي تقيده المنهجية بله النظرية التي هي ليست مطلب الفيلسوف لكنها مطلب الباحث حين ينظر مطبقاً ومنوعاً في المنهج والنظرية غير قادر على تركهما أو التواني في البحث عنهما. ولا يسهل علينا أن نضع أيدينا على أسماء فلاسفة عرفتهم مرحلتنا فعلا ووصفا لكن بالمقابل يسهل بشكل مبسط تعداد اسماء الذين يريدون الارتفاع بصورتهم البحثية أو الثقافية أو الأكاديمية أو التربوية إلى مصاف فكرية يكونون فيها فلاسفة.
وبالطبع الفارق شاسع بين أن يكون المرء نزّاعا إلى التوظيف أو يكون ميالاً إلى التفكير، لأنه في التوظيف سيبحث عن نظرية مثل نظرية البداوة لابن خلدون أو نظرية العقد الاجتماعي لجومبلوتز كي يحقق أغراضه من قبيل تعليل نشأة الدولة أو تفسير انحلال المجتمع أو تحجره؛ لكنه بوساطة التفكير سينظر ويتأمل ليبتدع للآخرين طريقا ما.
وهذا يعني أن التوظيف متاح لمن يملك الجهد والإمكانية بينما التفكير مقصور على من يقصده كغاية وليس وسيلة، وبعقلية التصارع على مستوى الأفكار والمبادئ، محركاً الراكد حول قضايا جدلية كالأخلاق والنفس والمزاج والمجتمع والسلف والتاريخ والحضارة والظلم والفقراء والنظام والدولة الديمقراطية والدولة الشمولية والثورة المسلحة والثورة النظيفة البيضاء والإنسان والشعور والأنا.. وهلم جرا.
وليس الفيلسوف مجرد باحث لأن الفلسفة درجة من التفكير هي أعلى من درجة البحث كما ليس للفيلسوف أن يكون منهجيا. والبحث ميدان يمكن ممارسته تحت مختلف الظروف والمتغيرات في الحرب والسلم في الخفاء والعلن وفي الرخاء والقحط في الأزمات والانفراجات كما يمكن التخصص فيه بعكس الفلسفة التي لا تمارس إلا بوجود قدحة استنارة أو ومضة تنوير.
والفيلسوف هو الكائن الأكثر برماً بالتخصص، والأكثر اعتدادا بالحرية التي هي فكرية قبل أن تكون معرفية فلا ينغلق أمامه باب من أبواب الفكر كي يقول فيه ما يراه ممكنا نظريا ومتاحا رؤيويا، غير متحرز من المخالفة ولا التخالف. وما كان للفلاسفة على مرِّ العصور أن يكونوا طارقي أبواب المعرفة لولا موسوعيتهم ومقدرتهم على أن يقولوا في كل شيء ما شاؤا من القول مهتمين بالمهم وغير المهم والنخبوي والعمومي على السواء.
وليس غريبا ألا يكون أمام الفيلسوف ما هو ممكن التفكير وما هو غير مفكر فيه، لأن الحرية التي يمتلكها ليست هي حرية الباحث الذي يظل في حدود الشيء الممكن التفكير فيه أو ما عليه أن يفكر فيه وضمن حدود المنهج الذي يشتغل فيه والإطار النظري الذي يحدده له المنهج.
ولا تُعرف حقيقة الفيلسوف إلا كشخص لا يقيده المجتمع بأطر تحد من حريته؛ بل هو متحرر بكل الأبعاد المتصورة وغير المتصورة بعيداً عن ضغط العادات والتقاليد. لذا لا مكان لمن يسمي نفسه فيلسوفاً وهو لم يعرف بعد الحرية ولم يذق بهجة الإشراق بالاتساع والانطلاق والانسياح ولم يتجاوز معتادات التصور المنطقي للسمات الثابتة التي لا تسوغ له التسامي إنما تُوجب عليه النكوص والتراجع احتكاماً إلى حقيقة أن العقل البشري منحاز دوما للأنا وقواها الشعورية واللاشعورية.
بالطبع لا يسعى الفيلسوف إلى الفلسفة بحثا عن التسمية أعني أن يُطلق عليه الآخرون اسم فيلسوف أو ينعتوه بصفة المفكر، لأن مسعى الفيلسوف دوما ليس نفسه؛ بل الحقيقة التي هي مراد الفلسفة أصلا، تغييراً للأفراد والجماعات أو إصلاحاً لحال نفوس تريد النجاة من واقع عسير أو زائف. وكثير من الفلاسفة مثل هيغل وهوسرل ودريدا وفوكو وشومسكي نبذوا توصيف الآخرين لهم بأنهم فلاسفة كونهم أرادوا من وراء ممارستهم الفلسفة أن تصل خطاباتهم إلى الآخرين فيتأثروا بأفكارهم.
وليس للفيلسوف مقصدية من جراء ممارسة الفلسفة لأنه لا يريد أن يفرض على الآخرين سلطته ولا يحاول أن يتحصل عليها أو ينتزعها انتزاعا أو يقتسمها معهم كأي شيء يمكن احتكاره ولا يراد افلاته كما أنه لا يريد بممارسته الفلسفة التأثير والاقناع موجبا على الآخرين أن ينطلقوا من فكره كنقاط ضوء لا نقاط بعدها في خضم علاقات غير متكافئة غايتها الاتباع والتسليم.
وإذا علمنا أن الإقناع بحسب علم سايكولوجيا الجماعات هو فن جوهري عليه تقوم كل العلوم وأن لهذا الفن سلطة بالمفهوم العام فعندها لا يغدو الإقناع هو غاية الفيلسوف بل المنطق هو غايته. ولقد أدرك الفلاسفة المسلمون في عصورهم الذهبية هذا الأمر فلم يكن الإقناع مقصدهم، بل هو المنطق في تأمل الأشياء ومعرفتها. وبهم تأثر الفلاسفة المعاصرون فهذا برتراند راسل يعترف بأسبقية المسلمين في هذا المقصد: «كان للعلوم منذ زمن العرب وظيفتان الأولى تمكننا من معرفة الأشياء والثانية تمكننا من فعل الأشياء. اما الإغريق فقد كانوا باستثناء ارخميدس يهتمون بالناحية الأولى فقط»، ( أثر العلم في المجتمع، ص41).
والمراهنة التي فيها تكون الغاية هي الاقناع وإثبات الرأي، إنما تتحدد في ممارسة مختلف أنماط التفكير باستثناء التفكير الفلسفي الذي يكتفي بالمنطق ولا يهمه بعد ذلك الإقناع.
من هنا لا يحتاج الفليسوف إلى إطار فكري بينما يحتاجه الباحث وهو ينظر إلى تركيب العقل البشري بوصفه شيئا متماثلا في جميع الناس سيّان في ذلك بين المتعلمين منهم وغير المتعلمين، إذ أن ما يبحث عنه الفيلسوف ليس الغلبة وإنما الحقيقة بعكس الباحث الذي يريد ببحثه أن يعثر على الأسباب ويتوصل من معرفته إياها إلى توصلات هي في جميع الأحوال حصيلة تلك المسببات.
وكيفما تكن الأسباب تتحدد النتائج. وقليلا ما تصيب هذه التوصلات الباحثين بالغرور العلمي وهم يتحدون غيرهم ممن بحثوا في الموضوع عينه، متهمين إياهم بالغفلة والتخلف، فمثلا قد يصف الباحث غيره أنهم لا يزالون يعيشون في عقلية القرن التاسع عشر، محرزا لنفسه العجب وموجبا على القراء الاندهاش بأنه قد استوعب كل أسرار الموضوع الذي بحث فيه مما لم يستطعه غيره.
ولا خلاف أن العلاقة دوما عكسية بين الاستقرار أو الاتزان الذي ينبغي أن يكون عليه المجتمع والتبدل والتقلب الذي ينبغي أن يكون عليه الفيلسوف. وبسبب ذلك انتعشت الفلسفة الإسلامية في ظل ازدهار الدولة العربية اقتصاديا واجتماعيا وظهر فلاسفة من القرن الثامن الميلادي الى القرن الثالث عشر. وحين انعدم الاستقرار وشاعت الحروب والمجاعات والفساد غابت الفلسفة وانعدم وجود فلاسفة مسلمين لكن لم ينعدم وجود باحثين في حقب متفاوتة إلى أن جاء عصر النهضة الأدبية مطلع القرن التاسع عشر الذي مع ما فيه من تنوير وإحياء لم يستطع أن يردم الفجوة الحضارية الكبيرة التي امتدت ما يقارب سبعة قرون. ومع انتهاء الحرب العالمية الثانية بدأت مرحلة جديدة توصف بأنها فكرية تقدمية وتنويرية.
ولو أن الحياة العربية شهدت استقرارا حقيقيا لكان للفلسفة أن تتجاوز الإيديولوجيا ولواظب العقل العربي الحديث على إزالة كل قطيعة مع التراث الفلسفي الإسلامي بدينامية تبتعد عن السياسة وتقترب من الفكر، ولكان للعقل الفلسفي العربي الحديث أن يناظر العقل الفلسفي العالمي.
*القدس العربي