تلك الرّاوية التّي تؤلّف القصص لكلّ ليلة أتعبها السّهر ، لكنّها أقسمت أن تنهي ما بدأته الليلة . تحدثت عن امرأة الظلال -كما أسمتها – والتي كانت تقيم في مملكة البعبع . مملكة البعبع -حسب الرّاوية – تقع في منطقة اسمها زهر الليمون-المزبلة سابقاً- هكذا أسماها البعبع. في تلك المنطقة لا يعيش شجر الليمون لشحّ المياه.
سوف أقرأ لكم أبيات الشّعر التي ألقتها مذيعة التلفزيون الوطني البارحة وهي تصف الوطن” زهر الليمون” :
آلاف السّنين من الحضارة . . . يا وطني
ولا زلت مزدهراً ، غنياً ، جميلاً
يا زهر الليمون . .. أنت البهيّ الجميل
تجري الأنهار في حقولك . . . وعلى جانبيها المستحيل
للوطن بعبع يحميه نعيش بعزة معه ونفديه
نحن فداك يا وطن الزهر. . نفديك أبو الوطن بعبعنا الجميل
تقول الرّاوية:
لن أكمل أبيات القصيدة ،لأنها تافهة ليس فيها غير اسم البعبع، عندما غادرت مملكة البعبع كنت ألهث من التّعب، وأكاد أموت من الجوع، لم أشهد زهر الليمون بل بالعكس فإن رائحة النهر الذي تحوّل إلى مستنقع تزكم الأنوف ،وضعت الكمامة على فمي وأنفي. كان هذا قبل الفيروس الطيب الذكر ، الذي لا يضاهي البعبع في بطشه.
أيتها السيدات و السّادة: سوف أشرح لكم كيف هربت .
في المدينة التي كنت أعيش فيها، و تدعى “مدينة الحلم” التابعة لوطننا ” زهر الليمون” صدّقنا ما قالوه لنا عن مدينتنا ، أصبحنا نمجّدها، ونسينا رغيف الخبز فمات بعض الأطفال من الجوع. سميتها مدينة الرّعب، ففي إحدى المرات رأيت امرأة تختفي خلف شجرة محروقة ، بدت كأنّها شبح، كوني لا أخاف الأشباح لأنني تعودت على معشرهم- لطالما رقصنا معاً خلال الليل، ولطالما بادلني بعضهم الحبّ -،في مرة كان إيزنهاور، وناديجدا كروبسكايا يسهران عندي على طاولة واحدة. سألتها : أين الرفيق لينين ؟ أجابتني : يحاور بعض النساء عن حرية المرأة و أنا أحاور إيزنهاور عن الرأسمالية و الحلم الأمريكي.
أعود إلى المرأة التي ظننتها شبحاً . دعوتها إلى منزلي ، أردت أن أعرف من هي. قالت: لن تعرفي من أنا. إنني امرأة حقيقية، لكنني لست معروفة ، لذا لن تعرفي من أنا مهما شرحت لك.
عقدت صداقة معها ، أصبحت تأتي إلى منزلي في موعد نجتمع به مع الأشباح ، في إحدى المرات أتى شبح جديد ، كان يتأبطّ ذراع ماركس ، كان يتكلم وماركس يهزّ برأسه ، وفي النهاية قال له ماركس: بالغت في وصفك لنفسك أنّك ماركسي، أنت فوق ماركسي ، أنا نفسي لست ماركسياً ، لكنّني أحاول أن أقدّم شيئاً للبشرية أكثر من الكلام. تركه ماركس وجلس وحيداً ، كان مشغولاً يكتب ملاحظاته . كان يرمي بالكتب المترجمة ، يتمتم بينه وبين نفسه: لا أحد يقرأ هذه الكتب ، كتبت كتب أكاديمية يستطيع فهمها فقط الأكاديمي، كتبت في الاقتصاد .
أتى شبح من بني قريش يتأبط يد رجل من بني قريظة ، قام الرّجل : الفوق ماركسي ” وجلس قربه. سأله: كيف سوف نوحد أمة العرب؟ إنّه هاجسي . نحن العرب ” خير أمة” . قال الرجل : حلّ عنّي يا رجل ! حتى لو كنت من قريش فإن لي صداقة مع جميع الفئات في الجزيرة العربية . آخر ما يعنيني أمّة العرب تلك، يبدو أنّك فوق قومي ، ثم أتى أخيراً الخليفة عمرو بن عبد العزيز، سار الرجل جهته ، قال له: لا همّ لي سوى نصرة هذا الدّين . أشاح عمرو بوجهه عنه وهو يقول : أيها الرّجل دعنا نحكم بطريقتنا، يبدو أنّك فوق ديني.
المرأة الظّل تتحدّث، لا أحد يرى سوى ظلّ: هذا الرجل الفوق ماركسي، الفوق ديني، الفوق قومي هو زوجي ، يمكنكم وصفه بفوق مثالي ، فوق نسوي ، فوق عائلي، و فوق عشائري . كنت أخافه ،وكلما أدار المفتاح بالباب يرتجف قلبي خوفاً ، هربت من الواقع إلى الأحلام فأصبحت مختفية . قد يقول أحدكم لماذا صبرتِ؟ لن أجيبكم لأنّني لم أصبر ،فقط كنت ضائعة ، أرغب أن أوصل الأطفال إلى سن الأمان ، وعندما وصلوا مات هو ، لكنّ آثاره بقيت ، كنت لا أحظى باحترام من قبل من أعطيتهم حياتي فأختفي، من كثرة ما اختبأت أصبحت ظلاً. رغم أنني على قيد الحياة.
ينهض الرّجل من مكانه يبحث عن المرأة مهدّداً لها بأنّه سوف يطحن رأسها فتصدّر منها ضحكة مدوية: أنت ميت، مجرّد شبح لن تستطيع فعل شيء.
دعوتُ المرأة الظل لتروي قصتها على الجمهور من أجل التنويع ،و التشويق. كانت سعيدة . فرط دمعها من شدّة الانفعال: هذه أوّل مرّة يكرّمني بها أحد . أخجل من التكريم.
بدأت حديثها بالحنين:
أتوق إلى ليال ليت مثل كلّ الليالي. كنت هاربة من لا شيء، ومن كلّ شيء .
كنت هاربة منّي، فحتى لو حاولت إرضائه -أعني زوجي-، فإنّه لن يرضى . هو لطيف عندما يشتم، وراق عندما يركل. لا يستعمل سوى لسانه وقدمه ، أما أنا فعليلة الجسد والروح ، أذهب للنوم بينما يعدّ طعام العشاء ،، أفسح له المجال كي يتحدّث مع بنات الليل. لا أغار منهن ، فقط أشعر أنني لا أحترم نفسي، و أنا فعلاً لا أحترمها.
في أحدى المرّات رأيت الله، كتبت له عريضة بأنّ الثمن الذي أدفعه كبير ، وقد أضعت مالي وشبابي ، لكن يبدو أنني أخطأت ، كان من رأيته شبيه البعبع، رمى بطلبي في سلّة المهملات. نظر إليّ بطرف عينه كما لو كان يتوعدني. هل أخطأت بشيء؟ قولوا لي!
سوف أعرض عليكم مشهداً من مملكة البعبع سابقاً ، جمهورية زهر الليمون حالياً.
البارحة كان يوم ميلاد البعبع ، احتفلت به المحطات التلفزيونية جميعها، لبس البعبع بدلة بيضاء ، تقدمت مجموعة من الأطفال غنت له:
نحن أبناء الوطن. . . أبناء زهر الليمون
يحسدنا الناس ويسألون : من أي كوكب أتيتم؟
نقول: أتينا من كوكب البعبع
تسأل امرأة : من أين حصلت على هذا الفيديو ؟
-موجود في كل مكان . ضعوا اسم كوكب البعبع على الجوجل ، وسوف ترونه.
-لم أقصد ذلك أيتها الرّاوية ، لكننا أشباح، و أنت مثلنا ، نحن لا نظهر إلا في الليل. ولا نستطيع فعل الكثير من الأشياء.
-نعم يا عزيزتي . نحن أشباح لا تقبلنا السماء حتى نصّفي مهمتنا على الأرض ، لديّ قضيّة مع البعبع، كلما أحاول الصّعود إلى السماء تطيح بي إلى الأرض، فأختبئ، و أوثّق الجريمة. ما قضيتك أنت؟ لماذا لم ترتقي إلى السّماء؟
-قضيتي شخصية مع زوجي. أرغب أن أحاسبه . سرق مني مالي وشبابي، اتهمني بالجنون ، و رماني في الشارع، ثم أطلق عليّ الرصاص من ظهري ، دفع للقاضي كيلو لحم ،كان قرار القاضي بالبراءة.، ولم يسجن.
صوت بكاء في القاعة. كلّنا لدينا قضايا عالقة .
تقف الرّاوية، تقول : كفى ! نحن هنا من أجل المتعة ، يكفي أن هناك من يخافنا حتى لو كنا أشباحاً. تعالوا نرقص الآن ، سوف يشعر البعبع بذلك. بينما الراوية تتحدث. حل الصمت، اختفت الأشباح، فقد حلّ الفجر.
*خاص بالموقع