من صلاح ليوسف: الموت واحد والأدوات مختلفة

0

د. جمال الشوفي، كاتب وباحث سوري، دكتوراه في الفيزياء النووية منذ عام 2008، له العديد من الأبحاث العلمية، والدراسات الفكرية والسياسية بخصوص المسألة السورية.

مجلة أوراق- العدد16

أوراق الملف

“كان أحسن الأزمان وكان أسوأ الأزمان. كان عصر الحكمة وكان عصر الحماقة. كان عهد الإيمان، وكان عهد الجحود. كان زمن النور، وكان زمن الظلمة. كان ربيع الأمل، وكان شتاء القنوط”، بهذه الجمل التي تبين حدة التباين بين زمنين، كما حدة التناقض في ذات اللحظة، افتتح تشارلز ديكنز روايته الشهيرة قصة مدينتين. الرواية الأشهر التي وثقت وأرخت مفارقات التحول المتناقض أوروبياً بين زمنين وعصرين: عصر الظلمات والسحق التاريخي والهيمنة الكلية إلى عصر الحريات الحقوق المتساوية والدستور ودولة القانون وليس فقط، بل تتغلغل في مفارقات اللحظة الزمنية من حيث تنامي درجات العنف والظلم سواء من نظام الحكم الملكي الوراثي الاستبدادي للشعب بكل فئاته، وتنامي العنف العكسي الذي مارسه بعض القادة الشعبين مخالفيهم بالتوجه كما الطبقة الحاكمة.

بهذه المفارقات، افتتحت مقال سابق لمحاكاة توضعات التغيير المدهشة في عالمنا اليوم، عالم المشرق الذي يقف على فوالق متعددة تستحق أن نصفها بحدة التباين بين زمني الاستبداد الشرقي السلطوي وعصر الانفتاح والحريات والتعدد، التناقض بين تكلّس الموروث السياسي والديني وبين أحلام الشباب وتطلعاتهم الحداثية والعصرية وليس فقط، بل شدة التناقض الحاد في ذات اللحظة بين قرارين، فعلى يمينك مظالم الاستبداد بكل تعيناته الأمنية والسياسية والنفسية المجتمعية القهرية، وعلى شمالك تنافر بيني معارض حاد، وقسوة في التوجه والأيديولوجيا المتنافرة كحدين متناقضين، وكل منهما يأتي على خيارك الحر وتطلعاتك المتفحة فعلى أي الجانبين تميل؟ وهذا كان لسان جيل عريض من الشباب لطالما عايشنا تجربتهم المرة خلال عقد وعشره من الزمن.

العام 2012، منذ منتصفه وحتى نهايته، أكثر قليلاً أو أقل بزمن، عام التحولات الكبرى، عام النوسان المتأرجح في ثورة السوريين بين محاولاتها القاسية والمريرة في الاستمرار في سلميتها ومدنيتها وبين انجرافها الكلي نحو العسكرة المفروضة، وما تلاها من تحولات أشد قسوة في نمو التطرف والتشدد الديني متباين الأطراف ومتعدد التداخلات. هذه وتلك يمكن معالجتها في دراسات موثقة تستهدف مسار التحولات هذه، وإبراز نقاطها السلبية من الإيجابية، سواء للإسهام في إعادة إنعاش الروح الشعبية مرة أخرى، بعد حجم كوارثها الفاقعة من اعتقال فقتل فردي وجماعي فتهجير وتغيير ديموغرافي، وحالة كساد وعطالة عامة في الحلول المتوخاة، بحكم حجم التدخلات الإقليمية والدولية، وبشتى صنوف الاستبداد والعسكر وكل أنواع الأسلحة الكلاسيكية والمحظورة. أو في الإدلاء في شهادات موثقة على لحظات التباين تلك، وشدة مفارقاتها، حتى وإن كنّا لا زلنا نعيش هذه اللحظة وتلك التناقضات ولا نستطيع الجزم بمسار لها، فقد تدهشنا بتغيراتها وتضرب توقعاتنا، وتغير مساراتها! وحتى لا نكون شهداء زور على تلك المرحلة، ويا لكثرة أحداثها الحافرة في الذاكرة موقع الألم، ويا لهول إدهاشاتنا ومواجعنا.

في تلك اللحظة الفارقة، وبعد احتدام الخلاف في مسيرة السورين بين الرؤى السياسية لمسار الثورة، والتي أفضت لتباين يتسع بين قوى المعارضة الكلاسيكية وقوى المعارضة البراغماتية وهذه تداخلات واصطفافات، وتباينات في الرؤى والافتراضات ليس موقعها للسرد هنا. بين هذه وتلك يقف جيل الشباب حائراً على أي الجانبين يميل، وهو قليل الخبرة السياسية، محمول على عواطفه الجياشة والنزّاعة نحو الحرية ببراءته وأحلامه الوردية لمستقبل وزمن مختلف عما يعيش.

عند لحظة اشتداد الخلاف بين تنسيقيات العمل الشبابية السلمية وتداخلاتها مع التوضّعات السياسية تلك، كان صلاح صادق، شاب في مقتبل العمر يعايش كل تلك الخلافات، يشارك زملاؤه مسيرتهم السلمية في التظاهر المتقطع في السويداء. كنت انظر في عينيه وألمس تململه وضجره من شدة الحمولات الأيديولوجية المرمية على كاهل جيل الشباب من أفكار سياسية تحاول تأطير مسيرتهم ناحية اصطفاف سياسي ما: بين مجلس وطني وهيئة تنسيق، بين لجان التنسيق والهيئة العامة للثورة، بين تنسيقية وأخرى، والخلاف ليس بناءً بل هداماً ومشتتاً بآن. وجميعها تتركز أمام جيل الشباب وترهق كاهله وتعطل اندفاعاته، خاصة وأن هناك دائماً، وكما في كل سورية، من يحاول الاستئثار في قيادة المشهد السوري ثورياً، وكأن وهم التغير قاب قوسين أو أدنى! فيسعى بكل جهده لتعطيل أقرانه والبروز على عطالتهم تلك، في موقعة تحاكي المغالبة القهرية ذاتها التي عانى منها كل السوريين، وكانت سبب ثورتهم عام 2011، المشهد الذي تنامي بعد 2013 بحدة وتسارع.

في نهاية 2012، قرر صلاح وعدد من رفاقه الذهاب الى حلب، محمولين بنزعتين ايجابيتين: الأولى إنسانية عامة وذلك لأحياء حفل رأس السنة الميلادية للأطفال هناك. والثانية لمشاركة إخوانه السوريين من باقي الطوائف وهو المنتمي لأقلية دينية لم يتمدد فعلها الثوري ليصبح ظاهرة شعبية كما باقي المحافظات ذات الأكثرية الاسلامية السنية! كمن كان يدرك أنها رقصته الأخيرة، شغفه الأخير المتعلق بفرح طفولي، ركز في عينيا طويلاً وكأنه يفكر فيما قلته: هي ثورة للكل السوري، لأحلام الشباب السوري، للمتظاهر والخائف، للسياسي والفلاح، للمثقف وللإنسان البسيط، هي ليست ثورة للسياسيين ولفريق دون غيره، أو لملّة أو طائفة دون غيرها، ولا قائد لها الا بوصلتها في حرية الكل وكرامة الجميع ودولة الكل السوري…. ليقترب مني لأول مرة، وكانت الأخيرة: وستكون هكذا.. وستثبت أنها ثورة الكل السوري فعلاً وقولاً.. وغاب سراً دون أن يترجم معنى كلامه أو يبلغ أحداً عما كان قد عزموا عليه، غاب كالعادة، إلا أنه حضر بعد زمن قصير بكليته الفاجعة!

في حلب الشرقية، حمل البالونات، ركض مع الاطفال، غنى معهم، رقص ولعب معهم… شاهد وعاش ضحكتهم وفرحهم بجنون فطرته الطفولية… لكن كان مكر التاريخ يحوم في السماء! طائرات تحلق في سماء حلب، الأطفال ينظرون لها ببهجة معتقدين أنها تشاركهم فرحتهم وأنها سترمي لهم بالونات ملونة، بينما قلب صلاح ورفاقه ينقبض لتوقعهم لفعل مشؤوم سيحدث.

يقول أصدقائه، م. س. و خ. ب. أنهم حاولوا ادخال الأطفال للملجأ، لكن الأطفال بقوا يصرون على اللعبة، ولم تدم لحظات التناقض تلك بين فرح عارم وموت جارف يحوم في السماء سوى لحظات، حتى علا الصراخ كل المكان…

رمت الطائرات حمولتها من الحقد والكره على بستان الطفولة هذه…قضى صلاح ومعه عدد من الأطفال، ونجى رفيقيه بأعجوبة بعد أن ملأت الشظايا جسدهم وروحهم لليوم.

حاولوا إنقاذه، حاولوا استعادة روحه البريئة وعودتها للحياة، ولكنها كانت تأبى أن تبقى رهينة شدة التناقضات التي لا تستطيع حملها، ولا أن تكون أسيرة واقع يتكشف عن حدة الجريمة فيها، كانت روحه الطفولية واحلامه، كما جيله وأقرانه، يحبون الحياة والفرح والنور، فاختاره نور السماء ومضى.

في يوم تشييعه، التقى كل المختلفين، سياسياً وأيديولوجياً، تنسيقيات ومجموعات عمل مدني، التقوا جميعاً في يوم تأبينه. يوم تشييعه كان بلا جثمان لكن روحه الحرة والإنسانية حاضرة عن آخرها. يومها حضرت كل صنوف الأمن وقوى العسكر بكل حمولاتها العسكرية لأول مرة في السويداء، كان إطلاق النار الحي في السماء وفوق رؤوس المتظاهرين، والغاز المسيل للدموع حدث مختلف عما كان سائداً سابقاً، حيث كان استخدام ما يسمى “الشبيحة” من أبناء المحافظة لتفريق المظاهرات، في إشارة واضحة لتغير المسار السوري عامة والسويداء في ذات المعادلة وليست خارجها، فقد دخلت كل سورية في لعبة الموت الجماعي ولا أحد مستثنى.

 دفن جثمان صلاح في حلب وروت أحلامه رصيد من بقي من جيله رونقاً وردياً في القدرة على الاستمرار وضرورة التماسك وتنحية الخلافات، فقد دخل السوريين منذ تلك الأيام وربما قبلها بقليل، في زمن التحول نحو القتل الواسع والمتعدد الجبهات، ودخلت سورية قاطبة بشعبها البسيط وسياسيها ومثقفها ومهنيها وكل ألوان طيفها في لعنة الموت الكبرى ولا زالت لليوم، ولسان حالي يتساءل: ماذا استفاد المتنازعين على أحقية القيادة الثورية سياسياً حينها واليوم؟ ومتى سيدرك الجميع أن زمن التحول العام يحتاج شد أزر الجميع بعقل جماعي تشاركي، لا عقلية تنافسية قهرية تأخذ بعضها بالمغالبة الكلامية، كما هو مستمر لليوم بين شتى صنوف الايدولوجيات المعارضة، والتي أثبتت أنها تحمل ذات جينات الاستبداد ذهنياً وسلوكياً.

اليوم، وبعد تسعة أعوام من صلاح ومن مثله آلاف الآلاف من الشباب السوري، ظن فيه غالبية الشعب المهزوم أن الحرب قد توقفت حين توقفت الطائرات عن الإقلاع من المطارات منذ قرابة العامين. حين ظن الغالبية المتبقية، وخاصة الشباب المقيد بأحلامه بمعاشه بأمنه الحياتي والمعاشي، أن الاستقرار قادم أو قاب قوسين أو أدنى، ولربما هو محط تفاهم دولي على إنهاء لعبة الموت السورية، وقد يكون هذا صحيحاً نسبياً أو مجرد مخاتلة سياسية كبرى لا نعلم نهايتها بعد! أيّاً يكن، يرصد الزمن اليوم، وخلال محاولاتهم المتعددة لفك اسار العزلة المفروضة عليهم، من مطلوب للخدمة، كساد وظيفي، أزمات خانقة معاشية وحياتية… كشباب سوري خاصة في ذات المحافظة الجنوبية، السويداء، قضى الكثير منهم في جرائم قتل فردية كان سببها ترويج الفوضى الأمنية الممنهجة وفلتان حملة السلاح من حملة البطاقات الأمنية، وانتشار جرائم الخطف والاتجار بالمخدرات والسطو النهب خاصة المتعلقة بالسيارات. اليوم يقضى شاب بمقتبل العمر، أمه وأبوه من حملة الشهادات العليا، لم يدخلا معترك السياسة أبداً، بقدر مساهمتهم الإنسانية المتعددة خاصة في مساعدة النازحين من كل البقاع السورية للمحافظة. والشاب يوسف نوفل، معروف لأصدقائه، ولنا كأصدقاء أسرته، ببراءته وذكائه وجرأته وأحلامه الوردية. يوسف اليوم يقضي على يد عصابة تريد الاغتناء من خلال اقتناص ثمن سيارة منه. قُتل يوسف بجرم العمد مسبق التدبير. فذات سلاح الحقد والكره الأعمى والهوس الأكبر بالاستفادة من قوة القتل لإحكام السيطرة والهيمنة التي حملته الطائرات لسنوات، تحمله بندقية اليوم بذات النزعة في ارتكاب الجريمة بغية الاغتناء، خاصة حين لا يوجد رادع لها، لا بل ثمة من يغذي نزعتها المجنونة في القضاء على من تبقى من هذا الجيل بسلميته وبراءته وأحلامه الوردية الكبيرة.

التباين الحاد وشدة الصراع على السلطة وأحقيته المفردة والمطلقة، الذي اغتال وطن واستباحه بكل أصناف الموت الحرام، هدم الكلية الوطنية وحولها لمأتم جماعي روحي ومادي، والنتيجة طفولة تزهق وشباب يقضي ووطن يتماوت. هو ذات التباين الحاد بين ما نريده من الحياة الحرة الكريمة ودولة القانون وسيادته، وبين عبث أصحاب الشهوات غير المنتهية سواء في الحكم المفرد أو الاغتناء المطلق… وهو ذات التباين الحاد بين أدوات وطرق الأولى السلمية والذكية، وطرق وأدوات الأخرى العنفيّة المدمّرة لكل نماذج الحياة، والتي تجبر البقية منا على أقسى الخيارات سواء بالرحيل الكلي وإفراغ البلد إنْ تمكّن من ذلك، أو اللجوء لأية وسيلة للدفاع عن الذات، ويا لشدة التناقضات.. ويا لحجم كوراثنا!

فعلياً، أذكر لحظاتنا لحظة لحظة، مرة أبتسم غبطة وفرحاً، ومرة أغط في فجاءة بكاء لا ينقطع، مرة تسرح بي الأفكار والتأملات بعيداً ومرة أقع أسير الحواف القاسية للواقع المجنون الذي نعيشه، ومرة ومرة… وفي كل مرة أقرر الكتابة التوثيقية أتردد وأخشى من تغير لون الحبر ومساحة البياض أمامي. فمن صلاح ليوسف، قافلة موت سورية كبيرة تعددت أسبابها والجريمة واحدة. ولكن، وهذه ال”لكن” حمّالة كل أوجه التناقض الحاد، مرة أملاً ومرة ألماً، إضاءة طرق للانفراج واشتداد طرق السحق متعددة الأساليب، ومع هذا سأبقى أكرر، وكأني لازلت شاباً أحلم كمن حلم يوماً، ذات القول ألفاً: إنه زمن التحولات الكبرى، فما قبل 2011، ليس كما بعده.