مناهل السهوي: الكتابة العارية.. أن تكتبَ وتتركَ جسدكَ خلفك

0

لكتابة هي شكلٌ من التعري المقبول اجتماعيًا في الأماكن العامة بحسب باولو كويلو. مجازيًا، كلّ تجربةِ كتابةٍ هي محاولة لتعرية المشاعر والأفكار والتجارب التي نمتلكها، لكن العديد من الكتّاب تعرّى بالفعل جزئيًا أو كلّيًا أثناء الكتابة. تبدو علاقة الكاتب بجسده مربكة، ارتبطت الكتابة على الدوام بالإبداع العقليّ، مع محاولة لإقصاء الجسد عنها بطريقة أو بأخرى لكن ألا يجدر بنا التفكير بأجسادنا كخطوة أولى لمؤلفاتنا، بتحويل جسدنا إلى جزء أساسي من الكتابة، إلى جزء من رواية أو قصيدة أو مسرحية؟ إذا كنتَ كاتبًا هل نظرت إلى ما تكتبه على أنّه محاولة للتعري سواء في سبيل جعل جسدك جزءًا من عملية الإبداع او اكتشاف مناطق جديدة في كتابتك؟

رغم اختلاف  مفهوم العري من مكان إلى آخر ومن جماعة إلى أخرى، إلا أن أثره في الكتابة يظهر لنا بين الحين والآخر وتبقى طريقة تقبله مرتبطة بشكل أساسيّ بتصورنا الثقافي عن العُري، فبحسب روث باركان، الأستاذة في النوع الاجتماعي والدراسات الثقافية في جامعة سيدني، فإن الملابس هي جزءٌ من الطريقة التي تقرر بها الجماعات المسيطرة من هو مناسب ليُعتَبر إنسانًا بالكامل ومن يمكن أن يعامل بنوع من الإهانة والازدراء، ومن هنا نجد مدى جدلية العري سواء بتقبل الآخر أو تصنيفه اجتماعيًا ودينيًا وحتى بطريقة ارتباط الأفراد فيما بينهم، فمثلًا بعض القبائل في نيجيريا كالكوما والكمباري لا يحسبون ظهور أثداء نسائهم كعري ولا حتى ظهور الأعضاء الذكورية لرجالهم، وتغطية أجزاء أخرى من الجسم هي طريقة لباسهم ويجد السكان الأصليون ذلك طبيعيًا وجزءًا من ثقافتهم حتى أن رجالهم لا ينجذبون إلى عُري النساء بقدر انجذابهم إلى شكل ضفر شعورهن والوشوم التي تمتلكنها، بينما يركز العالم المعاصر على الجسد العاري كجزء أساسي من الإغراء. في الكتابة أيضًا قد يبدو العري مصطلحًا إشكاليًا، سواء على المستوى الإبداعي أو الثقافي.

للأميركي دينيس جونسون، وهو روائي وكاتب قصص خيال علمي وشاعر، ثلاث قواعد في الكتابة وهي: على الكتّابِ العملُ وهم عُراة؛ عليك الكتابة بالدم كما لو أن الحبر ثمين ولا يمكن إهداره على الإطلاق؛ اكتب كما لو أنك في المنفى، ولن تعود إلى المنزل مرة أخرى، اخلقْ جميع التفاصيل التي تذكرك بالمنزل.

وإن كان قصد جونسون في قاعدته الأولى الشعور بالضعف والانكشاف وهو ما يجعل الكتابة أكثر صدقًا وحيوية وقوة فإن هذا الانكشاف والصدق يعني في كثير من الأحيان أن يمارس الكاتب مهنته وهو عارٍ بالفعل، ليتخلص من الثياب التي لا تشكّل جزءًا أصيلًا منه، فمثلًا حين أُجبِرَ الكاتب الفرنسي فيكتور هوغو على إنهاء عمل أدبي في وقت محدد طلب من خادمه أن يخفي جميع ملابسه وأبقى معه المحبرة وأوراق الكتابة فقط، استعان هوغو بالعُري للتخلص من المشتتات الخارجية مركّزًا على عمله ليمنحه طاقته الكاملة. لم يكن هوغو الوحيد الذي كتب عاريًا، فكذلك فعل همنغواي في بعض الأحيان، حيث كتب واقفًا أمام الآلة الكاتبة.

تظهر هذه العلاقة الغريبة بين الكتابة والعُري مع عدد من الكتّاب، فقد تسلّق الكاتب الإنكليزي دي إتش لورانس أشجار الكرز وهو عارٍ ليحصل على الإلهام للكتابة. قد يعني عُري الكاتب منح كتاباته المزيد من الحسّية المرتبطة بالحواس رغم أن قلّة هم من شرحوا سبب تفضيلهم ذلك، لتبدو طريقةً تُعين على استحضار المشاعر التي تشكل جزءًا من تكوين أجسادنا ولا يعني هذا أنها الطريقة الوحيدة للتواصل مع المشاعر، فالتفاعل مع الخارج أيضًا جزءٌ من الكتابة، نظرتنا إلى التفاصيل، لمسُ الأشياء من حولنا، تناول الطعام، كلّها طرق للتعبير عن المشاعر والاحتياجات، تعيدنا في الوقت ذاته إلى الحقيقة الأولى وهي إدراك مدى ارتباط الكتابة بأجسادنا.

تعود ممارسة هذا الطقس كذلك إلى البراءة وخروج الطفل عاريًا من رحم الأم، وخلقتْ أغاثا كريستي رحمًا لها بطريقتها عندما كانت تجلس عارية في حوض الاستحمام الفيكتوري الخاص بها وتفكر بحبكات قصصها بينما كانت تأكل التفاح، لم تكن أغاثا الوحيدة التي استعانت بحوض الاستحمام، فكذلك فعل الكاتب الأميركي مارك توين.

الأماكن إذ تصبح عارية

يحيلنا الروائي الأميركي جونثان فرانزين إلى عُري الأماكن، يعمل فرانزين في مكتب أفرغه من كلّ مصادر التشتيت حتى أنه استخدم حاسوبًا محمولًا ثقيلًا وقديمًا من نوع ديل تخلص فيه من منفذ الإنترنت، مع مكتب قديم وجدران عارية، ولا يكتفي فرانزين بذلك، فوفقًا للغارديان يضع سدادات للآذان حين يشرع في العمل ويضع فوقها سماعات الأذن العازلة للضوضاء، إنه عزل كامل عن الخارج وتوحّد مع الجسد. وهو يقول: “لا يمكنكَ كتابة رواياتٍ جادة على جهاز كمبيوتر متصل بالإنترنت”، إذًا يتحول الإنترنت والأثاث والأصوات إلى اللباس والتخلص منها، ليس تخلصًا للمشتتات وحسب بل عودة إلى الفطرة الأولى التي لم تحو مواقع التواصل الاجتماعي، فيصبح عالمٌ بلا إنترنت موازٍ للعري في الكتابة.
حسنًا قد يعمل الكاتب وهو عارٍ أو قد يُعرّي الأماكن التي يعمل فيها لكن ماذا عن الكتابة عن العُريّ ذاته؟

كتب المئات أعمالًا عن العري والجنس ووصف أجساد الحبيبات، لكن هناك نوع خاص من هذا العري ندركه في رواية “اكتبْ عاريًا” للكاتب والمخرج الأميركي بيتر غولد، والحاصلة على جائزة Green Earth Book لعام 2009. يكتشف فيكتور ابن الـ 16 عامًا آلة كاتبة قديمة، يأخذها إلى مقصورة مهجورة وسط الغابة تعود لعمه، حيث يقرر الكتابة عاريًا بعدما قرأ عبارة في كتاب يعود لأمه تقول: “عليك أن تكون عاريًا لتكتب”، وقد تكون العبارة مجازية لكن فيكتور طبّقها بحرفيتها، يستجمع فيكتور شجاعته ويخلع ملابسه وسط المقصورة ويبدأ بالعمل في عزلة أو هكذا يعتقد، إذ يكتشف فتاة تراقبه من النافذة، روز آنا فتاة مراهقة من الهيبيز. يشكّل هذا اللقاء غير المتوقع بداية لشراكة أدبية بين المراهقين، يتفق الثنائي على البدء بالكتابة وفي نهاية اليوم يتبادلان ما كتبا بشرط ألّا يعطيا آراءهما فيما كتبا أو يعلقا على أيّ جزء. يكتب فيكتور قصة حبّ معاصرة أمّا روز فتتجه نحو الخيال البيئي، تتطور العلاقة بين الثنائي ويستكشفان إمكانية التواصل مع بعضهما البعض والعالم خارج المقصورة. إنها رواية عن كتابة الكلمة الأولى عاريًا، معزولًا وسط الغابة، العودة للفطرة الأولى، بعيدًا عن الحضارة، ليست رواية عن الجنس أو الإثارة بقدر السكون والانغماس في الكتابة وترك كلّ شيء خلف الكاتب، وكما تقول الرواية فليس مهمًا أن تكون عاريًا أو لا، لأن الشيء التالي في الكتابة هو أن تترك جسدك خلفك تمامًا وتتجه نحو ذهنك متخلصًا من كلّ ما يثقلك، لا بدّ أن الكثير من الكتاب عايشوا تلك اللحظة حيث ينسوا مكانهم والوقت ويستمروا في الغوص عميقًا داخل كلماتهم، وكأن العُريّ هو البداية لترك العالم خلفنا!

الشعر العاري

 تحدث الكاتب الياباني من أصل يوناني لافكاديو هيرن (1869 – 1903) عن مصطلح “الشعر العاري” في إحدى محاضراته في طوكيو حين قال: “أريد التحدث قليلًا عما يمكن أن نسميه الشعر العاري … أي الشعر بدون أي رداء، بدون أي زخرفة، جوهر أو جسد الشعر الخالي من أي نوع من الحرفة”.

ثم جاء الشاعر الإسباني خوان رامون خيمينيز ليصيغ في عام 1916 ذات المصطلح (desnuda) وهو فعل ظهر في إسبانيا مع دلالة صوفية عن التخلي أو الاستسلام الذي ارتبط لديه بشكل أساسي بزوجته وبجسدها العاري. تحدث خيمينيز عن الشعر العاري في قصيدته “في البداية جاءت إليّ نقية”، يتذكر من خلالها كيف كتب لأول مرة في شبابه حين أتى الشعر كفتاة عارية وبريئة ومع الوقت راحت ترتدي ثيابها وحُليها فشعرَ بالكره نحوها دون سببٍ واضح، واصفًا من خلال قصيدتهِ تطوّره الشعريّ. يقول خيمينيز: “الشعر العاري، دائمًا يخصّني، ذلك الذي أحببته طوال حياتي”.

مع الوقت بات يدلُّ مصطلح “الشعر العاري” على نوعٍ من الشعر المنكشف والخالي من القيود في حاجةٍ إلى التخلي عن الالتزام بالبنيّة التقليدية، تأثّر العديد بالشعر العاري فنشر الشاعر بيرتس رافيتش لاحقًا مجموعة “الأغاني العارية” ثم استعار الشاعر اليوناني بانتيليس بريفالاكيس عبارة خيمينيز لمجموعتيه الأولى والثانية ليطلق على المجموعة الثانية “الشعر الأكثر عريًا”. أثّر شعر خيمينيز على شعراء أميركيين في القرن الماضي، ليقوم كلّ من الشاعرين ستيفن بيرج وروبرت ميزي بتحرير أنطولوجيا لشعراء أميركا الجدد من الخمسينيات والستينيات بعنوان “الشعر العاري” تبعتها بعد سبع سنوات مجموعة أخرى بعنوان “الشعر العاري الجديد” وضمّت المجموعتين العديد من شعراء أميركا الجدد كروبرت بلي وكينيث باتشن وكينيث ريكسروث وثيودور روثكي.

يغدو العري مصطلحًا أدبيًا يتخطى الجسد لكنه ينطلق بالأساس منه ومن فكرة الحريّة المطلقة لنميز ثلاثة أنواع من العُريّ في الكتابة، عُري الكاتب أمام أوراقه، والآخر الذي يخصّ منح الكاتب نفسه الحريّة والتخلص من القيود والإضافات التي تحكمت فيها، أمّا النوع الثالث فهو الكتابة عن العري بحد ذاته سواء بطريقة حسّية وجنسية أو كموضوع بحد ذاته.

(ضفة ثالثة) ( اللوحة: الفنان السوري حمود شنتوت)