مصعب قاسم عزاوي: التمييز بحق المستضعفين

0

من الناحية العلمية قد يصعب إطلاق صفة إجمالية لما هو من طبيعة البشر، إذ أن الكشوفات العلمية تشي بأن سلوك البشر في كل حركاته وسكناته يمثل حاصلاً معقداً لتفاعل ما هو فطري وراثي محكوم بالدارات البنيوية الدماغية المبتناة عضوياً في تكوين الجهاز العصبي للفرد، والتي هي ناتج المورثات التي يرثها من والديه وبالتالي من أسلافه الذين مرَّت مورثاتهم عبر الأجيال وصولاً إلى والدي الشخص، وبين البيئة والطبيعة التي يعيش ويتربى الفرد في كنفها، والتي تقوم بإعادة نظم ما هو فطري، وتعيد تشكيله، وتبرز أجزاءً منه، وتدفع أجزاء أخرى للزوايا المعتمة عبر توازن مرهف يتداخل فيه كل من العناصر الوراثية والعناصر البيئية في صياغة نمط شخصية وسلوك الفرد بنسبتين متقاربتين تتراوح حوالي 50% لكل من المجموعتين. وبناء على ذلك الواقع فقد يبدو من المستحيل على أي عاقل حصيف أن يسبغ على أي سلوك بشري من قبيل التمييز تجاه الأخرين بأنه سلوك فطري عفوي لدى بني البشر.

ولكن قد يستقيم من الناحية العلمية الإشارة إلى أن هناك ميلاً فطرياً لدى بني البشر للحفاظ على اتزان «مشعر تقييم الذات» و«الصورة التي يرون أنفسهم بها»، وهو ميل عفوي يفصح عن نفسه بذلك الميل الارتكاسي لدى بني البشر لتبرير الكثير من السلوكات الخاطئة أخلاقياً التي يقومون بها، ولي عنق الحقائق بشكل اعتباطي أحياناً لكيلا يصل الإنسان إلى استنتاج مفاده بأنه شخص بائس أو منحط أو خسيس لا يستحق إلا الاحتقار. وذلك استنتاج يميل الإنسان بشكل فطري لتجنب الوصول إليه عبر تخليق أكداس من التبريرات والأعذار لكيلا تبدو الوقائع التي يراها بصورتها الحقيقية. وهنا يبرز الانحياز Discrimination بكونه واحداً من نماذج الأعذار الجاهزة التي قد يلجأ إليها البشر لتبرير سلوكاتهم الخاطئة، والوضيعة أخلاقياً في كثير من الأحيان.

وكمثال على ذلك يصبح السلوك البربري الذي قد يقوم به جلاد من جلاوزة المستبدين و الطغاة  في أقبية تعذيب المستضعفين فعلاً مبرراً بحجة أن من يقوم بفعل التعذيب بحقهم مارقون ويحملون أفكار هدامة تهدد «السلم الأهلي»، ليقنع نفسه بصوابية سلوكه المتوحش، دون الالتفات إلى أنه يقوم بذلك كضريبة لتنفعه من الفتات الانتهازية التي يحظى بها جراء عمله في جسد الآلة القمعية الاستبدادية التي ينتسب إليها، في محاولة مقنعة منه للحفاظ على حد أدنى من اتزانه النفسي، وعدم انزلاقه لاستنتاجات منطوقها لا بد أن يعني «احتقاره لذاته» و «انحطاطاً في تقديره لكينونته» والصورة التي يرى نفسه بها.

وهذا النسق التبريري التلفيقي عبر لي عنق الحقائق يمكن أن يفصح عن نفسه أيضاً في سياق علاقة المجموعات البشرية فيما بينها في استطالة للنهج التبريري الذي يتم تبنيه على المستوى الفردي، وهو ما يعني تبني جماعة ما نموذجاً تبريرياً لسلوكها وعلاقتها مع مجموعة بشرية أخرى، قد يبتعد كثيراً أو قليلاً عن الحقائق القائمة بالفعل، لصالح استبطان نماذج معرفية إجمالية تعميمية الغرض منها الحفاظ على اتساق «صورة المجموعة في منظار المنتسبين إليها»، وهو ما يعني في المآل الأخير «مستوى تقدير الذات لدى الأفراد المنتسبين إليها»، وبحيث يعفي ذلك المجموعة والمنتسبين إليها من النظر إلى كل السلوكات غير الأخلاقية والمنحطة التي تقوم بها زمرتهم وأفرادها بشكلها الحقيقي، و هو الذي سوف يتم توريته «بالوعي الزائف» لنهج تعمية الحقائق وتحميلها بما ليس فيها. وهنا يبرز التمييز Discrimination، والعنصرية Racism الذي تقوم به مجموعات بشرية تجاه مجموعات أخرى بكونها أكثر النماذج الفكرية التلفيقية التي يتم تبنيها جزافاً في عقلنة سلبية للسلوكات غير المنصفة والعادلة التي تقوم بها مجموعة بشرية تجاه أخرى بذرائع مختلفة تحيل المجموعة المستضعفة إلى فئة منزوعة عنها الصفات الإنسانية الأساسية، وهو ما يبرر كل الموبقات التي يتم اقترافها بحقها ويمنح المقترفين مناعة من النظر إلى أنفسهم ومجموعتهم بشكلها الحقيقي البائس، إذ أن ما تم اقترافه من خطايا قد تم تطهيره من أوزاره منظوراً إليه بأنه فعل لم يتم اقترافه بحق «بشر من لحم ودم متساويين في درجة الإنسانية مع ظلامهم»، وإنما هو فعل تجاه آخرين منزوعاً عنهم تلك الصفة، وهو ما ينزع عن الفعل صفته الجرمية في ذلك المنظار التلفيقي الذي قد يتخذ أشكالاً قبيحة و ومتعددة قد تتجاوز تلك المرتبطة بالعنصرية والتمييز والتحيز وغيرها، إلى مستويات حضيضية من تنكيل سادي ووحشي بالمقهورين يبز كل التوصيفات اللغوية المتاحة بكل لغات العالم للإحاطة بعمق بربريته و ظلاميته.

*خاص بالموقع