مصعب الحمادي: الكتابة من ضفاف النيل إلى ضفاف السين

0

عندما التقى المفكّر المصري حسن حنفي بالكاتب السوري هاشم صالح في فرنسا لأول مرة قال له، حتى قبل السلام، اسمع: “أنا لست مثل صاحبك (محمد) أركون! (فهو) جالسٌ على ضفاف نهر السين (في باريس) حيث لا يخشى أي شيء، … وأما أنا فجالسٌ على ضفاف نهر النيل حيث يحاصرني الشارع والتقليديون الأصوليون من كلّ الجهات.” 
اختصر حسن حنفي بهذه العبارة ساعاتٍ من الحوار وكانت جملته بمثابة “ضربة استباقية،” لأن هاشم صالح معروفٌ بجرأته النقدية، وبتأييده لما كتبه الراحل جورج طرابيشي في حقّ حسن حنفي، المُصاب ككثيرٍ من أقرانه من المفكرين العرب ب”المرض بالغرب،” كما قال طرابيشي في كتابه الشهير بنفس العنوان. 
لكن لماذا تجعل الكتابة على ضفاف النيل أو الفرات أو العاصي من صاحبها مترددّاً، بل جباناً فيما يكتب؟ 
لقد وصلنا إلى ضفاف السين في باريس، وقادتنا الصدفة -تلك النسب العريق بين الأشياء- إلى ضفاف الراين والرون أيضاً وأوشكنا على “ختم” أوروبا جغرافياً وبشرياً ولم نجد في شعوبها ما يجعلها أكثر ذكاءً من شعوبنا، غير أن شعوب أوروبا أكثر حريةً وتسامُحاً، وهنا كلّ الفرق.
وكي لا يذهب القارئ بعيداً هنا، فالحرية المقصودة ليست الحرية السياسية التي تبخل بها الأنظمة العربية، بل الحرية كما يسمح بها المجتمع نفسه. فمجتمعاتنا العربية ما تزال تعيش في الحقبة الإبستمولوجية للعصور الوسطى المتأخرة. أي أن شعوبنا لا تتيح لنا من حرية التفكير والكتابة أكثر مما أتاحت الجماهير في عصر أبي العلاء المعرّي أو في العصر العثماني أو المملوكي. يقول الأستاذ هاشم صالح، “ما طرحه فلاسفة أوروبا قبل قرنين أو ثلاثة قرون هو الذي يمثّل شغلنا الشاغل الآن.” 
هذا الكلام محبطٌ جداً وحزين لأن المثقف العربي يجد نفسه اليوم مُصاباً بانفصامٍ زمنيّ مُزمن، فهو يعيش في عصر الحداثة، ويفكّر في مسائل العصور الوسطى المُتأخرة. ولو أراد أن يفعل ما هو خلاف ذلك لتعرّض للتكفير مثل نصر حامد أبو زيد، أو للقتل مثل فرج فودة. وهكذا تتبدّى المأساة في أن الشعوب التي تسكن على ضفاف النيل والفرات وغيرها من مرابع بلاد العرب ليست أقلّ حريّةً فحسب، بل أكثر عنفاً وإصراراً على الجهل! 
لكن ذلك لا يُعفي المثقف العربي من مسؤولياته الفكرية والأخلاقية. هناك شعلةٌ مقدّسة تنتظر من يحملها ليحرق بها أكواماً من “القمامة التاريخية” التي ترون على قلوب وأفهام الشعوب العربية؛ قمامةٌ تراثية دينية قبَليّة طائفية تمنع الهواء عن العقول، وتسمح بتكاثر البكتريا وتراكم العفونة، فيزدهر العنف والجهل والتعصّب، وتموت الحرية وتختنق المعرفة. ولسوف تحترق أصابع من يحمل تلك الشعلة، وقد يحترق كلّه، فمن يجد نفسه جاهزاً للمهمّة؟
ولكن التأثير الثقافي والمعرفي اليوم لا يتوقف كثيراً على المكان، فالعالم متصّل ومتواصل والأفكار تنتقل بلا جوازات سفر. كما أن شعوبنا العربية، حتى وإن كانت أقدامها عالقة في العصور الوسطى، إلى أنها تتمتع فعلياً بمزايا الاتصالات المتقدمة للحداثة، وتعيش رغماً عنها في القرية الكونية التي تصل أغانيها الصاخبة لكلّ بقاع المعمورة. فالأمر لم يعد يقتصر على الكتاب المطبوع وطنياً ولا على الدعاية المعرفية الضيقة لورشات التفكير المحلّية التي ترعاها الأنظمة. ولذلك فقد يلجأ من يريد أن يحرق ركاماً على ضفاف النيل لأن يقدح الشرارة من على ضفاف السين! فهل نكسر حاجز القرون الثلاثة ونمضي أبعد مما مضى حنفي والجابري وهاشم صالح، بل وحتى محمد أركون؟