مروان ياسين الدليمي: رواية «شيزوفرينيا جسد» للفلسطينية وسام المدني.. القمع وإشكالية الهوية الجندرية

0

يبقى الزمن في مقدمة العناصر الجوهرية التي يستند إليها بناء الشكل الفني للرواية، وحالة الارتباط ما بينه وبين السرد تأخذ بعدها الجمالي في المبنى الدلالي، طالما يمارس دوره في استقطاب العلاقات القائمة في بنية السرد، وفي رواية «شيزوفرينيا جسد» للكاتبة الفلسطينية المقيمة في النرويج وسام المدني، يتحول الزمن إلى فاعل نصي يأخذ شكلا دائريا، حيث يبدأ من حيث تكون الأحداث قد انتهت، ومن ثم يؤكد لنا حضوره من خلال تنكره لأي تمثل للزمن الواقعي، كما سنقف أمام حركة متوالية للزمن، حيث يتبادل فيها الماضي والحاضر مواقعهما بشكل متناوب، وهذا المنحى محاولة لسحب المتلقي إلى منصة السرد، عبر تقنية التلاعب والتحكم بالزمن، استباقا وارتدادا، ليكون التلقي منزاحا إلى مساحة من التساؤلات، التي يتشكل منها الخطاب الفني للرواية، بمعنى أن خيار السرد في هذه الرواية قد ابتعد في مبناه عن السياق التقليدي لمجرى الزمن.

البحث عن الهوية

شخصية نور المحورية والساردة للأحداث، ارتبكت صلتها مع نفسها، مذ أدركت إشكالية العلاقة مع جسدها، فلم تعد تعرف من هي؟ ومن تكون؟ ولأن الفضاء الواقعي لا يسمح بطرح مثل هذه التساؤلات خارج حدود ما هو مسموح ومتاح، فقد أغلقت بوجهها نافذة السؤال، وهذا ما جعلها تشعر بأن حريتها مرسومة لها بشكل مسبق، وينبغي لها أن لا تجتاز ما هو متاح أمامها، لأنها أنثى، وهذا يكفي لكي تتخلى عما تشعر به مذ كانت طفلة، حيث كانت والدتها تنهال عليها بالوصايا منذ اليوم الأول لالتحاقها بالمدرسة، محذرة إياها من اللعب مع الأولاد، فتولدت لديها الأسئلة في وقت مبكر، في محاولة منها لمعرفة معاني الحب والكراهية والخوف، ومن أين تولد هذه المشاعر.
بدا المشهد الأول للرواية معبأ بالدلالات التي ستتكئ عليها مكونات النص، فكانت نقطة الشروع تحمل كثافة في عناصرها السردية، وستبقى بمثابة المفتاح الذي سيقودنا لفهم تعقيدات ما تعانيه شخصية نور، فهي من جهة تعيش إشكالية في تحديد هويتها الجندرية، إذ تتداخل في ذاتها مشاعر متضاربة، أنثوية وذكرية، وأصبح جسدها بمثابة سجن تقبع روحها خلف قضبانه، وانعدمت أمامها أي فرصة للتصالح معه، بالتالي فقدت بوصلة العلاقة مع نفسها ومع العالم المحيط بها، ولم يعد ممكنا أن تصل إلى لحظة تتوفر فيها فرص التوازن والتواصل بين الداخل والخارج.
من هنا نجد اعتماد بداية السرد لتكون في سيارة الإسعاف، مع المصير الذي اختارته نور بلجوئها إلى الانتحار والتخلي عن الحياة، خيارا فنيا يحمل قصدية تتعدى مسألة تعرية علاقتها مع العالم الذي تعيش صراعا معه، إلى الكشف عن حقيقة وجودها التراجيدي، بعد أن وجدت هويتها الجندرية تتأرجح في منطقة رمادية بدون إرادتها. وعلى الرغم من أنها لم تكن تحمل مؤهلات علمية ولا تعليما متقدما، لكنها في ذاتها حملت وعيا متقدما إزاء ما تحتاجه كإنسانة، تعاني من ضياع ملامحها بين هويتين جنسيتين، وعملت بكل ما تستطيع من أجل الفصل بين هذا التشابك، خاصة أن سعيها كان يدور في إطار مجتمع منغلق لا يعترف بما تعانيه، مهما كانت تحمل في داخلها من صراع نفسي يعبر عن محنتها، واتضح ذلك بعد أن حاولت إقامة علاقة مع صفاء، زميلتها في المدرسة الثانوية، وبدل أن يصغي لها المجتمع ويمد يده لمساندتها، حتى تخرج من هوة هذا التشابك الداخلي الذي يعصف بها، عمل بكل ما يملك من سلطات إلى قمعها ومعاقبتها، لا لشيء إلاَّ لأنها حاولت أن تتعدى الحدود التي وضعتها الذاكرة الجمعية المتوارثة، وهذا لوحده يكفي لأن يزجها في دائرة من ينبغي أن تنهال عليهم اللعنات.

انقسام الشخصية

اعتمدت صياغة المادة الروائية من الناحية التقنية على ثنائية الصوت السارد للأحداث، وبصيغة ضمير المتكلم في الحالتين، لأننا أمام شخصية واحدة منشطرة، ولكي تتحقق هذه المعادلة إنحازت تقانة السرد إلى تنويع الوحدات الفنية في بنية السرد، وقد تمثل ذلك في استثمار المذكرات والرسائل والمدونات والتعليقات، التي تحفل بها الصفحات الإلكترونية على الفيسبوك، إضافة إلى البوح الذاتي المباشر للشخصية ذاتها، فكان التناوب على السرد، بين صوتها في الحاضر وهي داخل عربة الإسعاف، وصوتها في الماضي المقبل من أوراقها التي كان يقرأها طبيبها في المستشفى، محاولة تقنية لخلق حالة من الإيهام لدى المتلقي، تجعله يتنقل بين عالمين وزمنيين سرديين لشخصية واحدة، بالتالي فإن هذا الانحياز في حبكة السرد بدا في حالة توافق كبير مع الانقسام الداخلي الذي تعيشه شخصية نور، فجاءت الحبكة على قدر كبير من التوافق مع طبيعتها الداخلية. ومسارالشخصية يشير إلى عمق الإشكالية النفسية والفلسفية، التي تحكم العلاقة بين ذاتها والعالم، وعلى الرغم من أنها حاولت أن تعثر على ما يحقق لها نوعا من التفاهم، إلا أنها فشلت، حتى أن حياتها أصبحت في خطر شديد، واضطرت إلى الهرب، لقسوة ردود الأفعال التي جوبهت بها، وهذا يشير إلى أنها شخصية باحثة عن حقيقتها الجندرية، وسط ركام من أصوليات مجتمعية، لا تسمح لها بمساءلتها، ولديها قدر كبير من الشجاعة، عبّرت عنها بوضوح في رفضها لسلطة الواقع، إلا أنها في النهاية تقر بعجزها عن إحداث أي تغيير في منظومة القيم المتوارثة، ومن هنا جاء قرارها بدخول المصح، وإن كان هذا الخيار يحمل شكل الهزيمة إلاّ انه يعبر ايضا في وجهه الآخر عن فعل المواجهة، طالما يحمل في دلالته إدانة رمزية تومئ إلى أن العالم خارج المصح تنعدم فيه فرص الحياة.
ووفق هذه الحبكة فإن الرواية تتوغل عميقا في متاهات الروح وغواياتها التي تجتاز بها خطوطا حمرا، كرستها السلطة بمفهومها المطلق تحت عنوان العيب والحرام والممنوع. وكانت الصفعة القوية التي تلقتها من ابيها بمثابة الدرس الأقسى الذي لن تنساه، فتحولت إلى لحظة فاصلة في حياتها، افترقت فيها عما كانت عليه من براءة، واستحالت ذاتها من بعدها إلى ثنائيات متقاطعة، وانتهت معها تلك العلاقة المفتوحة مع العالم، فإذا بالأبواب تغلق في وجهها، معلنة البدء بزمن آخر لم يعد يتسع لتساؤلاتها، ويضيق ذرعا بها، فكانت النتيجة أنها اختارت في ما بعد العيش في المصح بإرادتها.

بنية الزمن

نقف في هذا العمل أمام زمنين سرديين الأول يرتبط بالحاضر، حيث ترقد نور في سيارة الإسعاف، ومن خلالها تبدأ عملية البوح لتمثل نقطة ارتكاز في ذاكرة الذات الساردة، التي تستعيد الأحداث عندما تستثيرها الصور المتتابعة عبر نافذة سيارة الإسعاف، أما الزمن الثاني فننتقل إليه عبر أوراقها التي دونتها، والتي عثر عليها الطبيب الذي يعالجها في المصح، فكانت فضاء تقنيا لسرد علاقاتها وأفكارها وهواجسها الحميمة، التي مرت بها، وشكلت بالنتيجة نقاط الاحتدام بينها وبين سلطة الواقع، الذي عمل على تدجينها في هوية لا تنتمي إليها رغما عنها، اضافة إلى أن الرواية في استثمارها لتكنيك المدونات في صفحات مواقع التواصل الاجتماعي، لم تتعامل معها باعتبارها مادة وثائقية، بل كانت انفتاحا تقنيا على فضاء التناص، فأنتجت تلك الصيغة العلائقية نصوصا موازية داخل النص الأصلي، كانت تشتغل في إطار تدعيم السرد التخييلي بتعالق نصي واقعي، ومن غير أن تجري عليه أي تغيرات، وقد تجاوزت تلك النصوص وظيفتها الفنية، بأن تحولت إلى وسيط وثائقي يدعم محتوى الخطاب الفني في النص السردي المتخيل.
ومن وحي وتأثير العالم الافتراضي الذي حاولت شخصية نور أن توظفه في أدواتها ضمن إطار المكاشفة الذاتية، مع من يتشاركون معها في الإشكالية الهوياتية، التي تعاني منها تدخل في علاقة افتراضية مع هدى، الفتاة العانس التي تضج أنوثة ولا أحد يلتفت إليها، ومن ثم تكتشف أن العلاقات الافتراضية مها كانت تبدو صادقة، إلا أنها تبقى وهمية، ومن نتائجها أنها تزيد من الشعور بالإحباط، ولن تكون بديلا عن العلاقات الفاشلة في الواقع الحقيقي.

شخصية شكسبيرية

شعور نور بتحررها، جسدا وروحا، من قيود العالم الخارجي، الذي قمعها تحقَّقَ في اللحظات الأخيرة من حياتها، بينما كانت متمددة على السرير داخل سيارة الإسعاف وهي تتأرجح بين الصحو والغيبوبة، وجاء ذلك في أول مشهد ابتدأت به الرواية، وهنا تكمن قوة الحبكة السردية، حيث كانت تعبيرا عن حالة تصالح داخلية مع نفسها. ومن هنا تبدو رمزية هذه اللحظة في كشفها عن المعركة الشرسة التي يمارسها المجتمع، ضد من يبحث عن حريته الذاتية، وأن هذه المعركة لن تنتهي إلا في حالة فناء الجسد، فالجسد هنا يمثل عقدة الصراع بين الذات والذات، وبينها وبين الذوات الأخرى، ولنا أن نتصور تراجيدية هذه العلاقة، وانسداد الأفق فيها، إذ بدت شخصية نور في بنائها الدرامي أقرب إلى أن تكون «هاملتية» من ناحية علاقتها الوجودية مع العالم، لأن موقفها يعكس مواجهة حادة بين أن تكون أو لا تكون، وعندما انحازت إلى فكرة الانتحار فهذا يعني أنها اختارت أن تكون.
رواية «شيزوفرينيا جسد»: وسام المدني / إصدار المؤسسة العربية للدراسات والنشر
الطبعة الأولى 2020 / عدد الصفحات 256

*القدس العربي

ترك الرد

Please enter your comment!
Please enter your name here