بدايةً يجب عدم تجاهل كل ما يكتبه سامي المبيّض فهو يمثّل رؤية تقليدية معروفة للتاريخ السوري الحديث. ورغم أني أرفض المنهج الذي يتبعه في سردياته، وبالتالي «التاريخ» الذي يكتبه، إلا أني أعتقد أن هناك وقائع ومعلومات يسجلها قد تكون صحيحة، وستكون مفيدة في كتابة تاريخ سوريا الحديث لاحقا.
من الصعب تصنيف ما يكتبه المبيّض كتاريخ، خصوصا في ضوء التطورات التي طرأت على حقل كتابة التاريخ في الغرب في المئة سنة الماضية. ليس غرض هذه الورقة شرح ومناقشة التاريخ كأنطولوجيا (ماهية التاريخ) أو شرح ومناقشة كتابته كأبستمولوجيا (كمنظومة معرفية) وبالتالي مناقشة الأسئلة الكبيرة التي يثيرها كل ذلك. لكن للإضاءة وباختصار شديد يمكن القول، إن هناك مرحلتين كبيرتين في «تاريخ» كتابة التاريخ في العصر الحديث: الحداثة، التي سادت من عصر النهضة حتى أواسط القرن العشرين، وما بعد الحداثة التي هيمنت على دراسة التاريخ، من أواسط ذلك القرن. اعتمد المنهج الحداثوي على التجريبية القائلة، إن حواسنا قادرة تماما على ملاحظة الأدلة، وعلى الوضعية القائلة بأن عقولنا قادرة على الوصول للاستنتاجات الصحيحة من تلك الأدلة. المؤرخ الحداثوي إذن هو مؤرخ موضوعي، يعتقد أنه مجهز وقادر على أن يرى أنماطا في وقائع الماضي، ويرى فيها معاني بإمكانه إعادة تمثيلها بأمانة بالغة في اللغة المكتوبة.
كتابة التاريخ
مؤرخو ما بعد الحداثة يشككون بجوانب كثيرة من ذلك التوصيف لعملية كتابة التاريخ، سواء من حيث المضمون (ماهية المحتوى التاريخي) والشكل (اللغة وقدرتها على تمثيل الأفكار) والمؤرخ (كمراقب خارج الحدث) ويرون، خصوصا التفكيكيين منهم، أن المؤرخ هو أقرب للمؤلف، أي أنه في الحقيقة لا يكتشف التاريخ كماضٍ بقدر ما يعيد صنع التاريخ كحاضر.
في الواقع، حقل كتابة التاريخ في العالم العربي يكاد يكون غائبا تماما عن هذه التطورات حتى الحداثوية منها، ولعل المؤرخين السوريين، هم الأشد انفصالا ربما بسبب حدة التموضع الأيديولوجي داخل الأكاديمية السورية، منذ منتصف القرن الماضي. فبشكل عام معظم الكتابات السورية التي تتناول التاريخ السوري الحديث مكتوبة بتاريخانية عاطفية تغلب عليها سمتان: التجميل والتنكيل ـ تجميل الأحداث والشخصيات، التي تتفق مع منظور وعاطفة الكاتب، والتنكيل بالأحداث والشخصيات التي تخالف منظوره وعاطفته. التجميل غالبا يأخذ شكل المبالغة الإيجابية في تقييم أهمية الأحداث والأشخاص الفاعلين في لحظة تاريخية ما، من خلال تعظيم الأثر أو تبرير الضرر أو تجاهله كليا. والتنكيل يكون على عكس ذلك في شكل مبالغة سلبية من خلال تصغير الأثر أو تجاهله أو تعظيم الضرر. التجميل والتنكيل سمتان أساسيتان في كتابة التاريخ الذي يدرسه الطلبة في المدراس والجامعات السورية (والعربية عموما) حتى اليوم.
يجدر القول إن التاريخانية التي يكتب بها المبيّض ليست جديدة في التراث العربي، فنحن نجدها عند الكثير من المؤرخين العرب القدامى، خصوصا عندما كانوا يسردون سير وأخبار الملوك والفاتحين الذين كانوا يعملون في بلاطهم، فكانوا غالبا يجمّلون سيرة سلاطينهم وينكّلون بسيرة من خالفهم في الزمان والمكان. والنتيجة هي هذا التاريخ المتضارب المتناقض، الذي وصلنا والذي دفع العديد من الباحثين، قديما وحديثا، إلى التشكيك في الكثير منه والحذر في اعتماده.
للدقة فإن كتابات المبيّض تميل في معظمها إلى التجميل وتحجم عن التنكيل. سردية المبيّض، وهي سردية أكثر منها تاريخا، في عمومها هي حكايات جميلة لسوريا لم تعد موجودة (وفي الغالب لم تكن موجودة أصلا) تطغى عليها الاحتفالية ومشاعر الحنين والرغبة العارمة في الإبهار. المبيّض يكتب بداعي الفخر بالماضي السوري وبمنجزات شخوصه، رجالا ونساءً، في بناء مجتمع عادل متناغم ودولة ديمقراطية مزدهرة. عاطفة الفخر لدى الكاتب واضحة وغالبة على كتاباته، ما يضفي حسا احتفاليا على قصصه يصل بها حد الكرنفالية الروائية في الأدب. هذه الكرنفالية تصدر عن رغبة غريبة في الإبهار والتعظيم.
وفي ضوء وقائع التاريخ السوري المأساوية، حتى في الفترة التي يُعنى بها المبيّض (مرحلة الانتداب الفرنسي ثم عهد الاستقلال حتى وصول حزب البعث للسلطة عام 1963) تبدو المفارقة كبيرة بين عواطف الكاتب الطاغية على سردياته، وحقيقة ما حصل (هزائم متتالية: أمام فرنسا 1920 و1925 و1945 وأمام إسرائيل 1948 ومؤامرات واغتيالات سياسية في النخبة الحاكمة (حسني الزعيم، محمد ناصر، سامي الحناوي، عدنان المالكي، أديب شيشكلي) وصراعات حزبية دونكيشوتية وانقسامات طائفية وتلاعب بالانتخابات.
غلبة النزعة الاحتفالية ليست دائما غريبة، فهي سمة معتادة من سمات الكتابات البيوغرافية العائلية. هي متوقعة حين يكتب شخص ما سيرة عائلته أو سيرة فرد متميز فيها. وهكذا ليس غريبا أن تطغى الاحتفالية على سيرة السياسي السوري لطفي الحفّار، كما كتبتها ابنته سلمى الحفّار الكزبري. جهدها في توثيق مذكرات أبيها ووثائقه الأخرى هو جهد مهم ويستحق التقدير لما سجلته لنا، لكنه ليس تاريخا بقدر ما هو مصدر لكتابة التاريخ، يجب تدقيقه وتمحيصه ومقابلته بمصادر التاريخ الأخرى، لكن من الغريب أن تطغى هذه الاحتفالية على كتابات مؤرخ يكتب في العصر الحديث، ويتناول تاريخ بلد بكامله كما لو أنه سيرة عائلة أو بضع عائلات.
من هنا الارتباك في محاولة تصنيف ما يكتبه المبيّض، فهو من ناحية يستعيد الماضي السوري كسيرة «رجالات» (ذكورا وإناثا) وهو في هذا كلاسيكي جدا، ينهج نهجا قديما ساد في التاريخانيتين العربية والغربية قديما، وهو نهج كان مقبولا أيضا في المراحل الأولى من الحداثوية. من ناحية أخرى لا يمكن التوفيق بين الاحتفالية الكرنفالية التي يكتب بها، والحداثوية الممعنة في الموضوعية. فإذا لم يكن مؤرخا حداثويا، فهل هو مؤرخ ما بعد حداثوي يصنع تاريخه بنفسه وينتج كتابات سيروية شبه أدبية؟ هل يفعل ذلك بغرض الإمتاع والمؤانسة، لأن الأيديولوجيا تكاد تكون غائبة تماما من كتاباته؟
تاريخ سوريا
كما تبين هذه الأسئلة، هناك صعوبة بالغة في تصنيف ما يكتبه سامي المبيض من ناحية تاريخية، ولا يبدو أن هناك سبيلا للتوفيق بين الكرنفالية التي يكتب بها ومنهجيات كتابة التاريخ في العالم الأكاديمي اليوم، إضافة لذلك، من الصعب جدا تصور تطبيق هذه الكرنفالية على الحقبة السورية الحالية التي لا يقترب منها المبيض، ففي حين يمكنه كساردٍ أن يحتفل بعاطفية وبدرجة من التجرد الأيديولوجي بماضٍ صار بعيداً عنا نسبيا، كيف سيمكنه أن يكتب «احتفاليا» عن المقتلة السورية الكبرى المستمرة من أكثر من عقدٍ من الزمان، دون الانغماس في الأيديولوجيا (على نسق ما تفعل السردية الرسمية للدولة السورية)؟
للأمانة من الصعب على أي مؤرخ سوري أن يكتب تاريخ سوريا بتجرد وموضوعية، وهو يجلس في دمشق. هذا أمر يكاد يكون مستحيلا. ليس فقط بسبب الحدود التي ترسمها السلطة الحاكمة لما يمكن كتابته (وهو ما فرض على المبيّض الوقوف عند عام 1963) لكن البيئة الاجتماعية كلها لا تسمح بتناول حيادي جريء للشخصيات والأحداث السورية. كيف سيتناول المبيّض مثلا، بعيدا عن التبرير أو التجاهل، الوثائق التي برزت مؤخرا، وتبين ضلوع رئيس الوزراء السوري جميل مردم بك في التجسس لصالح المخابرات الفرنسية والوكالة الصهيونية؟ ستون عاما والمبيّض وأمثاله يحتفلون بجميل مردم بك كقامة وطنية فوق النقد والمناقشة، ثم تظهر هذه الوثائق؟
لديّ شعور بأن المبيض يكتب مواسيا لجمهور معيّن ومحدود وآخذ في التناقص، وهو بقايا جيل سوري مهزوم صار وأمنياته خارج التاريخ. وفي اللحظة ذاتها لديّ شعور بأن هناك فرصة كبيرة اليوم لكتابة تاريخ حقيقي جديد لسوريا، والمنطقة العربية عموما، بمنهجية تاريخية حديثة ناقدة، حداثوية أو ما بعد حداثوية، بعيدا عن الأيديولوجيات والاحتفاليات العاطفية المضللة، وهي فرصة كبيرة تنتظر جيلا جديدا من الباحثين السوريين والعرب.
*الشرق الأوسط