يطلّ الموت بأشكال متعدّدة، وتجثم هيبته على نفوس الأحياء، ويتّخذ الناس منه مواقف متباينة. فبينما يكون هو نهاية الحياة عند بعض المفكرين، يكون هو بداية لحياة جديدة عند آخرين.
يهيمن الموت في الحروب فيحصد الأرواح بشكل جماعي جموح لا يتوقف عن ترويع الناس بتلك القدرة الهائلة على الحصاد. من تلك الحروب التي قبضت الأرواح بالجملة، الحرب التي شنّها الأسد الابن على الشعب الحر، واستعمل كل أدوات القتل لتركيع الأحرار.
وقبل أن تنتهي تلك الحرب انطلق فيروس كورونا مستهدفاً المسنين بشكل رئيس، وتجاه هجمته الشرسة تباينت مواقف الدول منه، بين مكافح شرس، ودعاة إلى اتخاذ موقف سلبي منه ليأخذ من شاء من ذوي البنى الضعيفة.
كتب أحمد جاسم الحسين أنه “في هولندا الآن يسود فرح كبير
عند شريحة واسعة من الشباب والأطفال بأن كورونا سيخلصهم من كبار السن لتغدو فرصتهم بالحصول على منزل أسرع وكذلك كون كبار السن باتوا غير منتجين.
سألت إحداهن تقول : لكن هؤلاء الذين تتمنون موتهم، هم الذين بنوا هذا البلد الرائع.
قالت لي: نعم، شكرا لهم، أدوا المهمة وعليهم أن ينصرفوا!”.
لكن غالبية الناس في هولندا تحترم كبار السن، وتقدم لهم كل رعاية واهتمام، وما ورد أعلاه يعبر عن رأي شريحة، وليس الأغلبية.
لقد اعتمدت بريطانيا وهولندا والسويد وألمانيا سياسة “مناعة القطيع” لمحاربة كورونا الذي يريدون له وكي يكسبوا المناعة أن يضرب 80 بالمئة من الشعب، ويصمد القادرون وحسب.
في هولندا كما في دول أخرى، الأطباء يسألون مرضاهم المسنين:
هل ترغب باستعمال أجهزة التنفس أم لا، إنْ أصبتَ بمرض الكورونا؟
هذا السؤال لم يتم توجيهه إلى الشباب. فهل يعني ذلك أننا نعود إلى مفهوم الموت الرحيم؟
الموت أو القتل الرحيم فعل أو مُمارسة تُؤدّى للحدّ من آلام الأشخاص الذين يُعانون من مَرضٍ مؤلمٍ وغير قابل للشفاء، أو عجز في الجسد، مثل منع العلاج عن المريض ممّا يؤدي إلى موته. قد يُقرّر الطبيب الذي يعالج المريض في حال معاناة المريض الشديدة بشكل قانوني عدم إطالة أمد الحياة، كما أنّه قد يُعطيه بعض الأدوية المُخدِّرة التي تخفّف عنه الألم، الأمر الذي يُؤدّي إلى تقصير حياته.
فهل يمكن أن تكون طلقة الرحمة حلاً للأمراض المستعصية والشيخوخة؟
متى نفكّر بالموت بوصفه حلاً لما نعانيه؟ وهل يمكن أن يكون التخلّص من الحياة أمراً قابلاً للتنفيذ؟
وهل تسمح الأديان حتى بمجرد التفكير في الموت الرحيم؟
هذه الأسئلة وغيرها ورقة بحث مثيرة للجدل بين مؤيِّـد ومعارض.
أصدرت هولندا، منذ عقود، (قانون الموت الرحيم) بعد إقراره من جميع المراجع الدستورية فغدا قانوناً يُعمل به.
بعد جدل واستفتاءات ونقاش دام ثلاثين عاماً، صدر أول قانون في العالم يقونن وينظّم الموت الرحيم ويعدّه عملاً مشروعاً وفق حالات وشروط دقيقة حدّدها المشرّع. غير أن معارضي القانون اتهموا الحكومة الهولندية بأنها أصدرت هذا القانون لتخفّف من مصاريف المعالجة الطبيّة والأدوية للمواطنين.
الموت الرحيم من وجهة النظر الدينية:
إذا كان القتل بدافع الرحمة يعني إنهاء حياة إنسان أو مساعدته على الانتحار فإن الأديان كلّها تحرّم ذلك تحريماً مطلقاً وتعتبره جريمة قتل، لأن الله هو الوحيد الذي يحيي ويميت. فالديانتان – اليهودية والمسيحية، تحرّمان القتل بحسب الوصية الخامسة من الوصايا العشر “لا تقتل ” والكنيسة ترفض الإجهاض والموت الرحيم بحسب ما جاء في ردّ المطران يوحنا جنبرت في معرض ردّه على سؤال عن مشروعية الموت الرحيم. أما عن رأي الإسلام بهذه المسألة فإن هناك الكثير من الآيات القرآنية التي تدلّ على أن الموت هو من حق الله وحده واهب الحياة. وقد حرص الإسلام على حياة الإنسان ولم يجعل النفس ملكاً حتى للإنسان ذاته، وإنما هي ملك لله استودعه الله إياها، فلا يجوز له الانتحار، كما لا يجوز له التفريط فيها بواسطة الغير ولو كان طبيباً يهدف إلى إراحة المريض من آلامه.
هناك جملة من الأسباب التي يتمسك بها أخصام نظرية الموت الرحيم، منها أن هناك مئات الحالات من المرضى الميؤوس من شفائهم قد مـنَّ الله عليهم بالشفاء وعاشوا عشرات السنين بعد أن كانوا يُحتضرون، وأن العلم يأتي كل يوم بجديد، ومن الممكن للمريض الذي لا علاج له اليوم أن يشفى غداً، وأن مهمة الطبيب حماية حياة المريض ومتابعة علاجه بكل الوسائل الممكنة، وفقاً لِقَسَم (أبقراط) الطبي.
وبالرغم من ذلك كله، نتحوّل من الحديث عن الموت الرحيم إلى الحديث عن الموت الأكلينيكي، يقول أحد شيوخ الأزهر، جاد الحق، في كتاب (بيان للناس): ((أما بالنسبة للموت الأكلينيكي فإنه يمنع تعذيب المريض المحتضر باستعمال أية أدوات أو أدوية متى يتبين للطبيب أن هذا كله لا جدوى منه، وعلى هذا فلا إثم إذا أوقفت الأجهزة التي تساعد على التنفس وعلى النبض متى تبيّن للمختص القائم بالعلاج أن حالة المحتضر ذاهبة به إلى الموت)). ولقد استند شيخ الأزهر السابق جاد الحق في ذلك إلى مقررات مجمع الفقه الإسلامي الثالث التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي المنعقد في عمّان بالأردن عام 1987 حول أجهزة الإنعاش والموت الأكلينيكي. وهذا ما أقرّه أيضاً مؤتمر جنيف الدولي المنعقد عام /1979/ إذ عرّف المؤتمر الموت بتوقّف جذع المخ عن العمل بغضّ النظر عن نبض القلب بالأجهزة الصناعية. ورفع تلك الأجهزة الصناعية عن المريض هو ما يسمّى بالموت الرحيم السلبي.
الموت الرحيم من الناحية القانونية:
إن جميع القوانين والتشريعات في أكثر بلدان العالم لا تقرّ بـه لأي سبب من الأسباب، وتوجب العقاب على من يقوم به. وقانون العقوبات السوري صنّف هذه الأعمال في باب القتل القصد، ويعاقب مرتكبه بالأشغال الشاقة من خمس عشرة إلى عشرين سنة. كما أن المادة /538/ من قانون العقوبات هي التي تنطبق تماماً على حالة الموت الرحيم، فهي تنص على ما يلي: ((يعاقب بالاعتقال عشر سنوات على الأكثر من قتل إنساناً قصداً بعامل الإشفاق بناءً على إلحاحه بالطلب)). وتبقى إذن صفة جرم القتل الذي يعاقب عليه القانون مهما يكن نوعه.
في ظل العذابات التي يعانيها المريض الميؤوس من شفائه، هل نميل إلى مشروعية الموت الأكلينيكي؟ هل ينبغي المطالبة بتعديل قانون العقوبات، والأخذ بنظرية الموت الأكلينيكي؟
الموت الرحيم من الناحيتين: الاجتماعية والإنسانية
يُمارس الموت الرحيم بشكل خفي في كثير من المجتمعات بالرغم من حظـره دينياً وقانونياً، والذين يقومون به يبررون فعلهم بدوافع إنسانية محضة لتخليص المريض من وضع ميؤوس من شفائه. وعلى سبيل المثال فلقد اعترف أحد الأطباء الفرنسيين بأنه مارس الموت الرحيم على العديد من مرضاه، كما أن ممرضاً أمريكياً أطلق على نفسه اسم ملاك الموت حيث كان ينهي حيوات بعض المرضى الميؤوس من شفائهم، حتى إنه – في إحدى المرات – خنق مريضاً ظل يتنفس بعد أن نزع عنه جهاز التنفس الاصطناعي.
وهناك عدة دول تبحث الآن إمكانية الاقتداء بهولندا مثل أستراليا ونيوزيلنده وفرنسا وسواها لإصدار قانون مماثل للموت الرحيم.
هناك سؤال أساسي: من سيقرر ضرورة الموت الرحيم؟ … الإنسان – المريض هو صاحب العلاقة. هذا المريض هل هو دائماً متمتع بملكاته العقلية؟.
قد تأتي مريضة مصابة باكتئاب متكرر وتطلب أن ينهي الطبيب حياتها فهل هذا جائز؟
هناك رأي يقول: إذا كان القتل الرحيم مشروطاً بشروط دقيقة ومحصّناً بالحذر ومرفق بآراء لجان طبية فهو ممكن في حالات خاصة ولمصلحة الإنسان.
علينا أن نستخدم العقل ونستفيد من تطورات العلم في هذا المجال، والقانون الهولندي متطور إلى أبعد مدى وهو جريء ولا تجرؤ على مثله الدول الأخرى، وكثير من الأطباء لا يتحلّون بالشجاعة الكافية لمساعدة مرضاهم.
وإذا نظرنا إلى الموضوع من زاوية أخرى نجد أن البشرية أو الرأي العام العالمي لم يعر أي اهتمام قضية موت مليون إنسان في سوريا كما يعير اهتمامه لموضوع الموت الرحيم.
*المصدر: تلفزيون سوريا