إنها السيدة الحديدية «برج إيفل» الشهيرة في باريس، ويزورها كل عام سبعة ملايين عاشق، ازداد عددهم هذا العام بمناسبة عيد ميلادها: 130 سنة!.. وتحت البرج «أقيم حفل غنائي كبير على مسرح في الهواء الطلق (حالفه الحظ الطقس الجميل) للاحتفال بعيد ميلادها، أنشد فيه كبار المطربين الفرنسيين، ناهيك عن استعراض ضوئي جميل للبرج. وتصادفت عودتي من بيروت إلى باريس تلك الليلة، وقد غادرت مدينة «ثائرة» إلى أخرى «ساهرة»!
البرج «المكروه» صار رمزاً لباريس!
ولكن ما حكاية هذا البرج الذي صار رمزاً لمدينة باريس كما ساعة «البيغ بن» للندن، «وتمثال الحرية» لنيويورك، (والمكانكن بيس) في بروكسل بلجيكا، ويمثل تمثالاً لطفل يتبول!
(بصراحة، لم يعجبني الرمز البلجيكي على الرغم من أن الماء الذي يتدفق منه نظيف، والدنيا أذواق!)
ولكن ما حكاية «برج إيفل» الذي شيده المهندس الفرنسي المبدع غوستاف إيفل، ويحمل اسمه؟
تم بناء برج إيفل عام 1889 بمناسبة إقامة المعرض السنوي الدولي «إكسبو» في باريس ذلك العام. واختار المهندس غوستاف إيفل بناء برج معدني (عجيب غريب) بمقاييس ذلك الزمان، وزنه 7310 طناً معدنياً، رفضه كثيرون لكنه أصر عليه، وحسناً فعل!
وقلائل يعرفون أن العديد من الأدباء الكبار في فرنسا في عصر تشييده كرهوه وكتبوا ضده، بل إنه كاد يباع (بالمفرق) كقطع حديدية، بعد المعرض، أما اليوم فصار «برج إيفل» رمزاً لباريس دون أن يتوقع ذلك حتى المهندس غوستاف إيفل الذي شيده!
أيها المبدع، كن عنيداً!
هجوم كبار أدباء فرنسا (الذين عاصروا المهندس إيفل) على برجه (المروع)، في نظرهم، يذكرني بكثير من المبدعين في حقول شتى، لم يعرف معاصروهم قيمتهم، ولقوا الهجوم أو اللامبالاة بعطائهم في الحقول كلها. وفي نظري، العناد صفة جميلة حين يمارسها مبدع يصر على ما يقدمه دون مبالاة، بالإهمال أو بالانتقاد بالهجوم عليه، ويبدو أن على المبدع أن يتبع قناعته ويصر عليها حتى ولو ووجهت بالجحود والرفض والانتقاد، وذلك ينسحب على الحقول كلها.
تقليد البرج في الصين وأمريكا
في مدينة لاس فيغاس الأمريكية شاهدت فندقاً شعاره «برج إيفل» وقد شيدوه مصغراً له.. وها هم في الصين يشيدون «برج إيفل»، شاهدت صوره في مجلة «باري ماتش» الفرنسية، ويقع على بعد 9300 كم عن البرج الأصلي! وهو برج مصغر لأن البرج الأصلي ارتفاعه 324 متراً وإيفل الصيني ارتفاعه 108 أمتار.
برج إيفل بضاعة سياحية رائجة!
الحوانيت الباريسية للسياح زاخرة بشتى التماثيل التي تمثل السيدة الحديدية وبحجوم عديدة، ناهيك عن رسمها على أكواب القهوة (Mug) وعلى الصحون و(الايشاربات ـ فولار) وسواها كالبطاقات البريدية، والأساور التي تتدلى منها مصغرات ذهبية عن البرج.
برج إيفل موقع سينمائي!
برج إيفل ليس الإبداع الوحيد للمهندس إيفل، لكنه الأكثر شهرة. ومرة، كنت أتناول العشاء في مطعم فندق عريق باريسي، ولفتني جمال سقف المطعم، واكتشفت أن هذا السقف من إبداع المهندس غوستاف إيفل. وفي الطابق الثاني من برج إيفل ثمة مطعم يدعى (جول فيرن) له مصعد خاص به ويطل على منظر باريسي بديع، هذا المطعم كان مسرحاً لأحد مشاهد فيلم لجيمس بوند.. وهو ما شاهدناه مؤخراً في فيلم (هندي في باريس)، ويمثل صبياً من غابات الأمازون يرافق والده الفرنسي إلى باريس، وحلمه أن يرى برج إيفل ويتسلق، وهو ما فعله وسط دهشة الذين يتناولون الغداء في مطعمه.. وثمة أفلام كثيرة عاطفية أو بوليسية، برج إيفل هو أحد أبطالها.
الانتحار من برج إيفل ضمانة للإنقاذ!
كثيرون يحاولون تسلق البرج بنجاح حتى مواقع مرتفعة جداً منه، وذلك للانتحار وربما لأنهم سيحظون بمن سينقذهم!
وآخرهم تسبب في إخلاء البرج من السياح ولإقناعه بالعدول عن الانتحار، بعدما ظل متدلياً ست ساعات من الطابق الأخير!
هل كان يريد حقاً الانتحار أم الحصول على الاهتمام وربما الشهرة؟ ولكن البرج (المكروه) من كثير من مبدعي زمنه صارت صورته اليوم منحوتة على قطعة تذكارية من الذهب وأخرى من الفضة الخالصة، أصدرتها منذ أيام «الهيئة الفرنسية النقدية».
برج إيفل وصور «السيلفي» القاتلة
لأنه تصادف أنني جارة «برج إيفل»، أرى من نافذتي مدى (انشراح) السياح حين يصلون إلى الرصيف مقابل نافذتي، ويصير بوسعهم التقاط (سيلفي) مع البرج، قبل أن يصلوا تحت البرج مباشرة لالتقاط صور أفضل بكثير حتى ولو كان الثمن حياتهم!
وأراهم من نافذتي، حيث يهبط (المتصورون) عن الرصيف إلى وسط الشارع، وقد تؤذيهم سيارة مسرعة أو دراجة نارية. ترى هل تستحق صورة (سيلفي) التضحية بحياة ما حتى ولو كانت مع «برج إيفل»؟
ما الذي كان سيقوله غوستاف إيفل لو علم بمدى نجاح برجه الذي كرهه العديد من المبدعين الأدبيين في زمنه؟ كان سيقول للمبدعات والمبدعين الشباب في أي حقل كانوا: لا تدعوا أحداً يخيفكم! قدموا جنون إبداعكم.. والزمان سينصفكم إذا كنتم من المبدعين الحقيقيين في أي حقل.
ايتها المبدعة، أيها المبدع الشاب، لا تخف.. فالإبداع هو (اقتراف) الجديد!
*المصدر: القدس العربي