عواد علي: لاجئة سورية في إسطنبول تستعيد سيرة عمّاتها الثلاث

0

في رواية “عماتي الثلاث”، للروائية السورية أسماء معيكل، تستعيد بطلتها “داملا” سيرة حياتها من غرفة صغيرة في إسطنبول، حيث تعيش بين جدرانها في عزلة، بعد الدمار الذي أصاب بلادها على يد نظام بشار الأسد.

ينحرف مسار السيرة بالكاتبة إلى استعادة سيرة عماتها الثلاث اللواتي تولّين تربيتها وكانت تناديهن جميعهن بأمي، وكان لكل واحدة منهن شخصيتها المتفردة، وحكايتها المميزة. تتفاجأ داملا بأن شخصيتها ما هي إلا انعكاس لشخصياتهن وكأنهن حللن فيها، حتى حينما تنظر إلى نفسها في المرآة تنعكس فيها صور عماتها بدلا من صورتها. وهذا ما حدا بها، للغوص في سيرة حياتهن، وعبر البحث تكشف عن سيرة جدها العائد من “السفر برلك” وسيرة بلادها قبل نحو مئة عام، وكيف كانت أحوالها قبل الحرب التي انتهت إليها.

تدور أحداث الرواية، الصادرة حديثاً عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر، في المكان نفسه الذي دارت فيه أحداث رواية معيكل السابقة “تل الورد”، فبطلة الرواية اسمها الأصلي سليمة على اسم خالتها المتوفاة، ونظرا إلى الحرج من ذكر اسمها في البيت حتى لا تثير الحزن، صاروا ينادونها دمعة لسخاء دموعها، وحينما انتقلت إلى تركيا، وعرفت صاحباتها قصتها سموها “داملا”، وهي تعني “دمعة” باللغة التركية. تنتمي هذه الفتاة إلى تل الورد التي ترمز بها إلى سورية، ففيها نشأت وترعرعت، ثم انتقلت إلى حلب من أجل إكمال دراستها الجامعية، ثم إلى إسطنبول التي وجدت نفسها فيها وحيدة بعد أن عصفت الحرب الأهلية ببلادها، وبذلك جعلت الكاتبة من تل الورد مسرحاً لأحداث روايتها الجديدة عبر خوضها في تاريخ المنطقة، فأحداث “عماتي الثلاث” تسبق أحداث روايتها “تل الورد”، وإن جاءت بعدها في النشر.

توزعت الرواية على سبعة فصول، جاء الفصل الأول بعنوان “الأرشيف العثماني”، وفيه تبدأ بطلة الرواية باستعادة سيرة حياتها بينما هي منكبة على تحقيق وثائق الأرشيف العثماني المرتبط بفترة الحكم العثماني في بلاد الشام، بعد أن ابتعدت عن بلادها بسبب الحرب الأهلية التي عصفت بها، لكن اكتشافها لاسم جدها في إحدى الوثائق العثمانية التي تؤرخ لحملة “السفر برلك” يحرف مسار سيرتها إلى سيرة جدها لنتعرف في الفصل الثاني المعنون بـ”عائد من السفر برلك” على جدها الذي حارب مع الأتراك، ثم نجا من الموت بأعجوبة وعاد إلى تل الورد ليؤسس لعائلته فيها. تقود سيرة الجد إلى سيرة العمات الثلاث اللواتي نشأت بطلة الرواية في أحضانهن، إذ فتحت عيونها عليهن وهن كبيرات ووحيدات وبلا أبناء، وقد خصصنها بحنانهن وعطفهن ورعايتهن.

عبر فصول متتابعة تكشف بطلة الرواية عن سيرة كل واحدة من العمّات، فتخص العمة الكبرى بالفصل الثالث تحت عنوان “بيضة العقر”، وتفرد الفصل الرابع “حزن أسود” للعمة الوسطى، وأما العمة الصغرى فتروي سيرتها في الفصل الخامس المعنون بـ ” حمل وهمي”، وفي “علّية رحيمة” وهو عنوان الفصل السادس جمعت البطلة عمّاتها الثلاث في العلّية التي جمعتها بهن في ليالي الشتاء الباردة، وكشفت عن مسامراتهن، ومتعهن الخاصة وخلافاتهن وحكاياتهن عن الجن والضباع وغيرها.

أسمت الكاتبة الفصل السابع من الرواية “ميراث عماتي” وعادت فيه البطلة إلى سيرتها التي قادتها إلى النهاية الغامضة، بعد أن وجدت نفسها في حالة ضياع متشظية بين الماضي والحاضر، تتأرجح بين مكانين وزمانين، بين الوطن والمنفى، تعيش بجسدها في إسطنبول، وروحها عالقة في تل الورد، تحيا في الحاضر بروح الماضي وعماتها اللواتي تتمثل أقوالهن وأفعالهن في سلوكها وتصرفاتها، فتتشظى هويتها وتعيش حالة ضياع تقودها إلى مصير مجهول، حيث تختفي في نهاية الرواية بعد العثور على سيارتها التي تعرّضت لحادث على طريق غابات بلغراد في شمال إسطنبول، من دون أن تكشف الكاتبة عن مصير بطلتها إن كانت ماتت أو ما تزال على قيد الحياة. اعتمدت أسماء معيكل في روايتها “عماتي الثلاث” بنية سردية تقوم على تقابل الشخصيات، فالعمات الثلاث هن أشبه بالمرايا المتقابلة اللواتي تعكس أطيافا للأحداث بحسب طباع كل عمة، وطبقاً لمزاجها، ومنظورها للحياة، ومن خلاصة ما يجتمع على سطوح تلك المرايا الثلاث تنبثق أحداث الرواية التي تستعيد حقبة زاهية من تاريخ سورية قبل أن تعصف بها أحداث الحرب الأهلية التي اجتذبت إليها أطرافاً عديدة تورطت في اقتراف إبادة شبه جماعية للشعب السوري الذي تشرّد في المنافي، ونزح بين المدن، ولاقى الذلّ والهوان على يد نظام أسرف في التنكيل به. ومع أن رواية العمات لتجاربهن مرّت من خلال عين الراوية، التي تنصرف إلى البحث في الأرشيف العثماني في إسطنبول، فإن خصوصية رواية واحدة من العمات الثلاث لتجربة حياتها احتفظت بطابعها الخاص، لكن مسار التجارب الثلاث صبّ في نهاية المطاف برؤية شاملة عبّرت عنها رؤية البطلة، التي وجدت نفسها تعيش تجارب عماتها أكثر من عيشها في مدينة كوزموبوليتانية مثل إسطنبول.

يُذكر أن أسماء معيكل روائية وناقدة وأكاديمية مهتمة بالقضايا النسوية والدراسات السردية والثقافية، صدرت لها روايتان “خواطر امرأة لا تعرف العشق”، و”تلّ الورد”، ولها أربعة كتب نقدية “الأصالة والتغريب في الرواية العربية”، “الأفق المفتوح: نظرية التوصيل في الخطاب الروائي المعاصر”، “في تلقي الإبداع والنقد”، و”سيرة العنقاء: من مركزية الذكورة إلى ما بعد مركزية الأنوثة”.

*نداء بوست