عمر قدور: ذات صباح برفقة بوبي

0

مجلة أوراق- العدد9

ملف منفى الحسرات و المسرات

تنتزعني من شرودي عينا بوبي الصغيرتان؛ كان ممدداً قبالتي، ساقه اليمنى مسترخية أو متهدلة فوق ساقه اليسرى. سأظن أن عينيه لمعتا لحظة التقت نظراتنا، بالتأكيد هي أشعة الشمس التي دخلت الصالون حينها، وانتزعتني من شرودي في الشجرة التي أراها كل يوم. سأقول له: صباح الخير بوبي. لا أدري إن كنت قد نطقتها حقاً، لكنني سمعت صوتي يقولها، ربما تخيلته وهو يلفظها خافتاً مع ابتسامة خفيفة ساخرة، ساخرة مني بالطبع.

هذه هي المرة الأولى التي أنفرد بها ببوبي في البيت، سوسن في الجامعة ودفا في المدرسة، وأنا وبوبي بمفردنا، صامتين، هو صامت كعادته، وأنا أيضاً صامت كعادته. أفكر: ربما لو أمسكت بيده لسرى بيننا كلام صامت مثلنا، كلام مفهوم يصعب قوله أو شرحه. ما كان عليّ التفكير هكذا، لأنني سأتذكر آخر لقاء لي بصديقي محمد، كان على سريره في المستشفى، دخلت وصافحته، أبقى يدي في يده وأشار لي بأن أقرّب الكرسي لأجلس إلى جانبه. لا أدري كم من الوقت مضى وهو ممسك بيدي؛ بقينا بلا أية نأمة، فقط عندما يصل الحديث الصامت إلى ذروة ما كنا نتبادل الضغط برفق على اليد، إلى أن شدّ على يدي مكتفياً ومودِّعاً.

أشعر لوهلة بوحشة تشبه تلك التي انتابتني عندما سمعت بوفاة صديقي محمد قبل أربع سنوات، مع أن الصباح رائق، ولم أفتح صفحتي على فيسبوك لتطالعني أخبار القتلى ممن هم أقرباء أصدقائي الافتراضيين أو الواقعيين أو عموم القتلى. وكنت للتو أراقب من النافذة سنجاباً أوقع من على الشجرة كمية ضخمة من ثمار الكستناء في حديقة البناء الذي أسكن فيه، كنت أكرر لنفسي أنني لو قُيّض لي اختيار الكائن الذي أعيشه فسأكون سنجاباً. في درس الفرنسية، عندما طرحت علينا المدرّسة لعبة “لو لم أكن لتمنيت أن أكون” على أن تنحصر التمنيات بكائنات أخرى، اخترت القول بأنني لو لم أكن بشرياً لتمنيت أن أكون سمكة. وجدت التحدث عن السمك، لتبرير الأمنية، أسهل من اختيار السنجاب بالنسبة لمبتدئ في اللغة، فنحن لا نرى أنواعاً من السناجب تحدق بنا بعيونها الواسعة في الأسواق، كما أن رشاقة السناجب تجعل القبض عليها صعباً في الحياة وفي اللغة. أيضاً في امتحان اللغة اخترت السمك، وأنا أمثّل دور الزبون في المطعم؛ يخطر لي أن المدرّسة وذاك الذي امتحنني ينظران إليّ بوصفي “الرجل السمكة” بدل السنجاب الذي أتمناه، وعليّ الاعتياد على هذا مثل اعتيادي على نُطق اسمي هنا الذي لا يُبقي من الأصل سوى حرف الميم والفتحة. على أية حال، قد يناسب وصف السمكة اللاجئ أكثر من السنجاب، إذ تحيل السمكة إلى البحر وهذا بدوره يحيل إلى قوارب النجاة أو الموت.

رأيت السنجاب مرتين فقط في سوريا، في الجبال القريبة من “وادي العيون”، وربما أعتاد قريباً على رؤيته مثلما اعتدت على منظر حبات الكستناء الساقطة أمام النافذة أو في الشوارع. هو بالأحرى ليس اعتياداً صافياً، بل ثمة فصل يقوم به ذهني تلقائياً، تصبح بموجبه هذه الحبات غير شهية وغير مثيرة للانتباه، لتبقى الكستناء مرتبطة بمدافئ المازوت هناك. لا شهية لدي، أو لا جرأة، لتذوق الكستناء المشوية سوى على النحو الذي فعلته من قبل، وفي المكان ذاته. ألتفت إلى بوبي، وكأنه يتابع مونولوجي عن السنجاب والكستناء، وأسأله: أنت، لو لم تكن بوبي، ما الذي تتمنى أن تكون عليه؟ فكّرْ جيداً، ولا تقل لي كما قال المتنبي: ليت الفتى حجر.

كانت ابنتنا دفا في شهرها السادس عندما ذهبنا لنشتري لها عربة أطفال للنزهات، في الواقع كانت النزهات تقتصر على الحي الذي نقطن فيه، الحي المحاط بثلاث جبهات مشتعلة. لم تكن النزهة تخلو من مخاطرة وقوع القذائف فوقها، الخطر الذي يبقى قائماً مع البقاء في البيت. مع مرور الوقت يتضاءل الخوف من قذائف الهاون، أي بعد أن تسقط مرات عديدة على مسافة أمتار منك. إثر شرائنا العربة لفت انتباهنا دب قطني، ترددت سوسن في شرائه بسبب حجمه الضخم نسبة إلى حجم طفلة في عمر ابنتنا، طفلة ضئيلة الحجم أصلاً بسبب الولادة المبكرة، لكننا اشتريناه وعدْنا به إلى المنزل، ولم تكترث دفا به إطلاقاً.

كانت دفا قد أصبحت في شهرها التاسع عندما صرنا في لبنان، بدت متوترة مع البيت والمكان الجديدين، حتى تلك العربة التي ألِفتْها بقيت في الشام واستبدلناها بأخرى. ربما بعد أربعة أيام أو أسبوع كنت أحاول تهدئتها، أمسكت بالدب وافتعلت حديثاً معه للفت انتباهها، لم تنجح محاولتي لكن الاستمرار فيها تطلب أن أطلق عليه اسماً، قلت لها إن اسمه بوبي، ولا أدري من أين أتت ذاكرتي بالاسم، لكنني سأكتشف لاحقاً أن اسمه هكذا وهناك سلسلة من قصص الأطفال مكرسة لشخصيته، لكن رغم ذلك لم نعثر على نسخة من بوبي في أي مكان ارتدناه. مع نطقي بالاسم لمعت عيناها، وأخذت بوبي واحتضنته. صار بوبي جزءاً حميماً من أسرتنا، ومؤخراً صارت تضيف لاسمه اسم عائلتنا بين الجد واللعب.

بالكاد، على كثرة صورها، يمكن العثور على صورة لا تحتضن بها بوبي. في باريس سيشرح لي الأمر صديق صاحب تجربة، فالأطفال يحبون الثبات، ويتعلقون بشدة بالأشخاص والكائنات التي تبقى مرافقة لهم، كتعويض عن المكان والناس المفتقدين، وكتعبير عن الخوف من فقدان الباقين أيضاً. ربما يكون سرّ هذه الكائنات القطنية في أنها تحتفظ برائحة المكان الأصلي، الرائحة التي لا يشمها ويميزها سوى الطفل نفسه، لأنها تعني له الأمان.

في الحضانة، وبعدها في المدرسة، سنرى الأطفال بين عمري الثانية والرابعة يبكون عندما يتركهم أهلهم. دفا لم تبكِ أبداً ونحن نتركها، أحياناً فقط رأيت على وجهها سحابة أسى عابر، لكنها تهز رأسها إيجاباً عندما أسألها عما إذا كانت تحب المدرسة. سنكتشف متأخرين أنها كانت تبكي، لكن ليس أمامنا، ولا تتوقف عن البكاء إلا عندما تحضن بوبي. نحن أيضاً وقعنا في فخ بوبي، ففي إحدى المرات نسيته في مدرسة أخرى للأنشطة وراحت تبكي بشدة، فأصررنا على عدم انتظار اليوم التالي، أخبرناهم بأنها لن تنام بدونه وأنه رفيقها منذ كنا في سوريا، وهكذا أتوا به من المدرسة الأخرى سريعاً.

في الأسابيع الفاصلة بين الحضانة والمدرسة كان بوبي قد ناله الكثير من محبتها ونزقها، ونحن أيضاً نلنا كثيراً من ذلك النزق. كانت تقترب من إتمام عامها الثالث ولم تبدأ بعد بالكلام، تتمتم فقط بكلمات غير مفهومة، وصارت مستوحشة إزاء الغرباء. مرة واحدة تفاعلت مع صديق تكلم معها بالفرنسية، لكن لم أتوقف عند هذا الأمر مطولاً. صديقة سورية مقيمة هنا منذ زمن طويل ستكشف لنا بالمصادفة أن طفلتنا تتحدث معنا بالفرنسية، الفرنسية غير المكتملة كحال لغة الأطفال الصغار، بينما نحن طوال الوقت ننتظر منها التحدث بالعربية، على افتراض أن الطفل لا بد أن يبدأ بالتحدث بلغة أهله الأم.

الآن، مضى على ذلك كله حوالي السنة، تصالحتْ أثناءها مع وجود لغتين، ومع عامها المدرسي الجديد تصالحت مع فكرة التخلي عن بوبي وعدم اصطحابه إلى المدرسة، وهكذا بقي قبالتي في الصالون. لكن موسم الأسئلة الصعبة يُنذر بالاقتراب، فهي قد عرفت مثلاً أن لأقرانها جدّات، بينما أفضل شرح استطعنا تقديمه أن أمي التي تحادثها أحياناً عبر فايبر أو واتس آب هي “مامي” بالفرنسية. نتحسب للأسئلة التي لا بد أن يحين موعدها، أسئلة من نوع: لماذا نحن بلا أهل هنا؟ لماذا هي بلا أقارب؟ ماذا يعني أننا سوريون؟ ولماذا غادرنا بلادنا؟ أسئلة سيكون من الصعب أن تجيب طفلاً عليها من دون أن تكسر طفولته، ومن الصعب أيضاً إفقاده حقه في أن يعرف الحقيقة.

أنظر إلى بوبي وأقول له: ربما أنت الأجدر بإجابتها على كل هذه الأسئلة. أنت الذي رافقتها أكثر منا. أنت الذي يعلم أن كل ذلك المونولوج عن السنجاب وشجرة الكستناء كان هروباً من الأسئلة المدمّاة، وأنني لا أتجرأ على النظر في عينيك وإخبارك برؤيتي إياك قبل أيام في المنام تنزف دماً، وحولك وفوقك ركام من الحجارة والغبار جراء قصف الطائرات. لا تقل لي أنك لا تستطيع النطق، فمن ينزف لا بد أن ينطق. أو، إذا شئت، تذكّرْ معي تلك القصيدة للشاعر التشيكي فلاديمير هولان، القصيدة التي عن سجين يتحدث طوال سنوات إلى جدار الزنزانة، ثم يقول: والآن أترك لكم هذا الجدار ليحدّثكم.

ترك الرد

Please enter your comment!
Please enter your name here