بصغري بالسبعينات كنت أبيع الصحفْ والمجلات بشوارع طرطوس …
وأكثر ما لفت نظري الآن، من أنني كنت أعير الصحف والمجلات لأصحاب المحلات مقابل فرنك، وبنهاية عملي ألملم ما استعاره البعض
وأحصي مما بعته، وعند إعادة المرتجع للوكيل، ينهرني معاتباً من أن أكثر مبيعاتي وإعاراتي كان لمجلة الشبكة والموعد المزينة أغلفتهما بصور شبه عارية لفنانين عرب وأجانب .. فقرر الوكيل أن يحرمني من بيع (الشبكة والموعد) وعوض عنهما بزيادة أعداد مجلة الصياد السياسية.
من يومها كرهت الشغل والسياسة ومازلت احتفظ بأغلفة تلك المجلتين المحشوتين بنهدي نبيلة عبيد وسيقان إغراء وخصر سامية جمال وفستان سعاد حسني وهي تركض خلفي وتغنيلي.. “يا ولد يا تقيل، يااااااا ه ..” وسميرة توفيق بشامتها الفارقة تندهلي وتغنيلي، “بيع الجمل ياعلي” واشتري الموعد والشبكة.
******
ببداية السبعينات أعلن المذيع السوري من أن التلفزيون سيبث لأول مرة فيلم بالألوان, دهشنا للخبر ولم نكن نعلم أن الفيلم سيبث على التلفزيونات الحديثة والتي تستقبل الافلام الملونة, ووقت بث الفيلم كان وللأسف بالأسود والأبيض، ومن شباك بيتنا شاهدنا جارنا الجمركجي عم يشاهد الفيلم بالألوان، وهنا شغلتُ مخيلتي الاختراعية وصعدت السطح ولونتُ الأنتيل لظني أن ذلك يؤدي لتلوين الفيلم، ومع هبوطي على الدرج بفرح دهشت من أن الفيلم يشاهده أهلي ب الأسود والأبيض فقط، فما كان مني إلا أن نزعت النايلون الأزرق من اغلفة كتبي المدرسية والصقتهم على الشاشة وتابعنا الفيلم بالأزرق فقط
ومن يومها كنتُ أول فيسبوكي بالعالم.
******
العالم يبدأ من إصبع سبابتي
طبعاً العنوان ليس نكاية بما قاله رسول حمزاتوف ” العالم يبدأ من عتبة بيتي”. وليس نكاية بما قاله الرئيس السابق لأمريكا جون كنيدي “لا تسأل ماذا يقدّم لكَ الوطن.. بل اسأل ماذا يمكن أن تقدّم للوطن).
وليس نكاية بكلّ الشعارات التي تمجّد الوطن وتحجّم المواطن.
وطبعاً ليس بما قالته فيروز “أنا ابنة وطن يموت فيه القمر وتزدهر تجارة الجثث”. بل نكاية بـ “المكنه” التي سحقت سبابتي اليمنى والتي بواسطتها أحصّل قوتَ أطفالي وأيضاً بواسطتها ألتقط قلمي، و”أفشُّ” خلقي بقصّة أحكي فيها عن الأشياء التي لا أستطيع الحصول عليها، أي بمعنى آخر الكتابة شكل من أشكال الانهزام. تخيّلوا لو أنّ كلّ الكتّاب توقّفوا عن الكتابة لربّما يولدُ شيء أجمل لا يُعَبَّرُ عنه بالكتابة بل بالفعل. المهمّ تجاوزتُ مشكلة اغتيال سبابتي اليمنى بالتعوّد للكتابة باليسرى الأقرب الى القلب، وأقول اغتيال وليس بتر لأنّ المكنه وأنا بريئان ممّا حدث بل المسؤول عن ذلك الهموم اليوميّة التي تحوّل الأصابع العشر مع العقل الى مكنة هموم لا تبدأ بمطالب الأولاد ولا تنتهي بالخوف من بكرا.
والخوف من بكرا وبعد بكرا، وبين اليوم والخوف من غداً يكمن الوطن، الوطن الذي لا يخيفك من بكرا، الوطن الذي تقدّم له ويقدّم لكَ أليس الخليفة الرابع هو القائل” الفقر في الوطن غربة” نعم أقولها بالصوت العالي وبدون سبابتي التي حرمتني وستحرمني لشهور عن العمل” الوطن يبدأ من سبابتي ولا ينتهي بالخوف من بكرا” فوطن يبدأ بحقول من القمح ولا ينتهي ببحر من النفط والملايين من الشباب المتعلّمة والآلاف المؤلّفة من العاطلين عن العمل والتي تبحثُ عن كسرة خبزٍ خاليةٍ من ذلِّ النفط وخبز القمح والقليل القليل من القمع، فلنختلف بكلّ شيء الاّ بحبّنا للوطن، الوطن الذي يبدأ بأصبعي، ومن الذي يذهب للعمل من فرشته الى ورشته ومن ورشته الى فرشته، ولنمزّق روزنامة الأيّام وأوراق اليانصيب وأبراج الحظّ، ولتكن روزنامتنا اليوم جميل وغداً أجمل، رغم الخوف الذي غنّاه مارسيل خليفه “الله ينجّينا من الآت” أي بما عبّر عنه “هايتي” (نادراً مافهمتونني نادراً ما فهمتكم لكن عندما نسقط في الوحل فعندها نتفاهم فوراً).
*خاص بالموقع