عبير اسبر: المكان المفقود

0

لم يكن مكاني الأول جميلًا بما يكفي كي أنتمي إليه، فلم يكن ممكنًا أن تحب بيتًا ماتت فيه أمك للتو، وأن تعشق مدينة انقسمت شوارعها بحدّة كما تنقسم الدماء في الرحم الواحد؛ إذ لم يكن الانتماء الطبقي وحده من حدد هوية تلك المدينة وقسّم أحياءها، بل التاريخ المخاتل للطوائف بتدرجاتها من اليهودية والمسيحية للإسلام، وانصياع ذلك التاريخ مرغمًا لطبخات سياسية معقدة بدأت بالإفصاح عن ذاتها بفجاجة مع السبعينيات حيث ولدت بعد أربعة أعوام من وصولنا إليها.
ولدت في إحدى مشافي دمشق بعد أن كدت أُميت أمي بسبب اختلاف زمرة الدم بيننا، لم تمت يومها لكنها ستفعل بعد حين، وليس بسببي هذه المرة بل بسببنا كلنا، فقد ماتت قهرًا. كان قد مضى عامان على تركها بيتنا في “الغساني”، وهو حيّ عريق ذو صبغة مسيحية وانتقالها الدراماتيكي مع والدي إلى منطقة “الزاهرة” الشعبية المحاطة ببرك الوحول الطرية وبساتين الزيتون. حارتنا الجديدة في الزاهرة لم تستطع تقبّل فساتين أمي المفتوحة ولا شعرها الطويل الفاحم المرمي للريح، ولا ضحكتها التي كانت تنثرها فوق أي شيء ولأي سبب، لكنها مع ذلك تسامحت مع جمالها بالخفاء، فدخلت بيوت الكل، الكل القادم من محافظات سورية الكثيرة، فلم يكن هناك ما هو دمشقي بحي الزاهرة، ففي بنائنا وحده سكنت عائلات من حمص وحماه وحلب وعائلة أسّسها عراقي وفلسطينية كانت هي جميلة الحي “أم رامي”.
في الزاهرة القديمة سكنّا في أبنية بشعة، لا تمتّ للعمارة بصلةٍ إلا في جانبها التخديمي، أبنية تطابقت مع بيوت النازحين من القنيطرة في حينها، تلك التي عمّروها على مقربة من مدرستي الابتدائية بعد حرب تشرين “التحريرية”! الفرق الوحيد والشاسع أيضا كان في وجود البلكونات، فلم يكن هناك بيت في دمشق بلا فسحة سماوية يشرب فيه الدمشقيون قهوتهم الصباحية أو شاي المساء، سوى تلك البيوت المبتورة للهاربين من الحرب. حيث بعد سنين من الملهاة السورية سوف أعي أنه لا يمكن للمهجّر، للنازح أو اللاجئ، أن يقارب الجمال أو يطالب به، فعليه أن يبقى حيًا أولًا.
في سنوات شبابي الأول، لم أحب الشام بقلبي. أحببتها برأسي، حب واعٍ تأصّل بعد سنوات عندما تعرفت إليها ومشيت بصحبة الأصدقاء للقائها، فغفرتُ لها سنوات البشاعة واليُتم، وفقدان الأم والأحبة، لكن هل يعني هذا أني لم أنتمِ لمكان أول، بالطبع لا!

فمكاني الأول نما عملاقًا باسقًا، عاليًا بعلو الجبال وأحراش الكستناء البكر، وبدا بعيدًا وبدئيًا يشبه عويل الريح، وترعى في برده وثلوجه بنات آوى في البراري، حيث هناك في الطوطم الأول، خلقتُ بولادة ثانية، كانت في حقيقتها أقرب للمجاز. ولدت من رغبتي بأن أكون ابنة المكان، ابنة أبي وحده، فلم أحب أمي لأنها ماتت دون أن تسأل أحدًا، وعشقت أبي الذي دار بي بين عيادات الأطباء وردهات المشافي، ولدت من رحمه، رحم الحب، من قلب أبي. هكذا انزلقت إلى الدنيا عارية الروح، بلا زيف المدنية ولا ارتباكاتها، في تلك القرية: مقلس، قرية من قرى وادي النصارى، حيث حمل الجميع أسماء آرامية، وبنوا بيوتهم الواسعة بالحجارة الزرقاء كما فعل الرومان في أقبية الخمور وفي القلاع والكنائس. لا أدري لم سُمّي وادي النصارى بالوادي، فكل قراه احتلت رؤوس الجبال، وتسامقت لتعانق وجه الله البعيد مخلوطًا برائحة الحطب المحروق والمرتحل في سماوات ممتدة.
منذ وعيي الأول وأنا أعيش بهويات مختلفة ولهجات مختلفة ورغبات دينية تتنازعني عند الدخول إلى أرض الشام، فيحتل الإرث الاسلامي بفتوحاته وثقافته وجداني، ويشكل القرآن مخزوني اللغوي الأول، وكله يتغير بشكل انقلابي، عند وصولي لفتحة حمص، فأتقمّصها تلك الفتاة الحرّة المنطلقة المسيحية التي لم يكن الإيمان ما يصفها، بل استخدامها المفرط لدار الكنيسة كمكان للهو، والهروب إلى سطحها حيث بالإمكان التمرجح بجرسها العملاق وممارسة المداعبات الخفية مع الصبية الأشقياء بينما ندخن “شباشيل الذرة” ونكفر ونشتم كل ما هو مقدس، فقط لأنه باستطاعتنا فعل ذلك، فنحن في بيت الله، نستلقي تحت سمائه اللانهائية.
عندما كتبت كتابي الأول، لم أكن قد فكرت بالكتابة ولا اعتبرتها بأي شكل ملاذي، فالقراءة من قام بهذا الدور. فقط في الشام، لافتقادي لحميمية وجمال المكان الأول، بسبب حيّنا البشع، وبيتنا البائس، حيث لا أحد يشعل المدفأة لنا صباحًا أو يحضر لنا الطعام عند العودة من المدرسة. كنت أمسك بالكتب التي كان معظمها مسروقًا، وأفتح دفّاتها لتمرّرني إلى عالم آخر، عالم دافئ تصبح فيه الأشياء ممكنة، مريبة، أو خطرة لكنها غير مخيفة لأنها لا تحصل لي.  فأنا أتكور تحت غطائي، أقارب الكون المخيف بكلماتٍ خطها الغير، فأنتشي بتجاربهم، أرتشفها وأخمّرها، وأتغذى بها حتى يصبح العالم محمولًا.

على مدى السنين، احترفت القراءة وخزّنت الأفكار والمفردات وصور المدن والعشاق، راكمت الخبرات في الحب والسياسة والطب والجنس من الجمل المحفوظة حتى بدوت ذكية جدًا. لطالما تغيرت ملامح كل من حولي من الإعجاب السطحي بالشقراء ذات العيون الخضراء إلى الافتتان العميق بهذه البنت التي نحلت كل الأفكار والمفردات العظيمة ونسبتها لها. حاكت لي القراءة لباسًا لم أحلم بارتداء أجمل ولا أفخم منه. ميّزتني جملي المسروقة بقامة طالت مجازًا في محيط ذكوري لم تهدده قامتي القصيرة ولا ضحكتي الطفولية ولا بريق حماسي الأبله.
اعتشتُ على تلك القراءات، لم أفكر بالكتابة أبدًا، ولم يُغرني هذا العالم الثابت، المنضبط الوحيد، والمعزول، فقد أتخمت بالعزلة، أردت أن أعيش أكثر، فكانت السينما، فسافرت باحتراف، إذ حضرت الأمكنة كبطل وحيد وأسطوري، حيث ظلت لدي لسنوات حقيبة لا تخلو من الثياب والأحذية الجاهزة للرحيل الجديد.
في الأمكنة الجديدة لم تتفتح مسامي الكتابية ولم تتنفس من تحت جلد خنقته رغباته بخلق الصورة لا بتكرار الكلمات. كانت السينما مكانًا مخترعًا، مساحة إضافية، عالم جديد مربك أستطيع ممارسة بلاهتي فيه حتى أتخم بالدهشة والضحك والحياة والحرية. في زيارتي الأولى لباريس، عندما ذهبت لدراسة السينما، لم أشعر بالغربة، ولا بالألفة والحميمية، كان الاعتياد ما ضرب حواسي فتبلّدت. باريس مدينة جميلة، لكنها مدينة جميلة أعرفها، أعرف حواريها وكآبة سكانها، ووجوم قاطنيها، فقد قدمتها لي الأفلام والكتب وهلوسات انتابتني في حيواتٍ مضت.
وعندما تفجرت لغتي، قصصًا وحكاياتٍ كانت الأفلام وحدها من أجبرني على استثمار ذاك المخزون.. فبسبب الحاجة وحدها كتبت كتابي الأول، طمعًا بشراء كاميرا وإتمام فيلم.
عندما كتبت روايتي الأولى لم أكن قد اطلعت بإتقان على نتاجات الكتّاب العرب، وعلاقتي باللغة العربية اختصرت بمصادر ثلاثة، بالجنون والغنى اللغوي للرحابنة وأغنيات فيروز، وبقصائد محمود درويش وبالقرآن. أما باقي القراءات فكانت كلها تراجم لكل أدباء هذا العالم، أو كتب بالإنكليزية ساعدني إتقاني لها على التهام المسرحيات وكتب النقد والتشكيل والروايات، دائمًا الكثير من الروايات
في سن السابعة والعشرين كتبت روايتي الأولى، كنت قد خطوت عندها خطوات ثابتة وواسعة نسبيًا كمخرجة، ولأسباب إجرائية نفعية كما أشرت سابقًا “الفوز بجائزة نقدية من وزارة الثقافة تساعدني في شراء كاميرا”.  سكبت خبراتي السردية في نصي الأول ” لولو”؛ حكاية عن مراهق ريفي تقتحم قريته مجموعة سينمائيين مصريين يصنعون فيلمًا عن فلسطين فيحوّلونه من خالد إلى لولو.
كتبت الرواية وفزت بالجائزة، وبعدها لم تتوالَ الأفلام.. الروايات من فعلت.
لولو كانت رواية مكان، قرية الحصن حيث نما لولو تطابقت مع “مقلس”، برياحها وعزلتها، بيادر قمحها وشجرات تفاحها وبذاءة ومشاكسة مراهقيها. حضر المكان بقوة بينما سيغيب في روايتي الثانية لصالح أربع شخصيات كانت أكبر وأوسع من الكون. في “منازل الغياب” ستحضر حمص على استحياء، وفي “قصقص ورق” سأمارس ألاعيب لغوية غير حارقة، فقد كنت ابنة دمشق اللاهية دون حنين ولا حب جارح ستحرضه الغربة أو يخلقه البعاد، لكن حبي الواعي لدمشق، حنيني المخزّن عبر سنوات من التسكع في حاراتها سينفجر بحرارة كحرارة اللغة التي خزّنتها سنوات تحت جلدي دون أن أعلم أني أملكها، حبي للشام دوّخني واندغامي في جمالها المهلك سيرشح كزيت مقدس من روايتي الرابعة “سقوط حر”، فقد انتهت الشام كواقع قد يحيا، عندما ذبحت وانهارت وتمزقت عمارتها وحكايتها تحت وقع عشر سنوات من الغياب القسري، ما بين بيروت ودبي ومونتريال، سأكتشف دمشق من جديد، ستحضر حية في وعيي كما لم تفعل من قبل، ستكون ذاكرتي عنها هي مرساة الخلاص من النسيان والتشيؤ والتجمد في ثلوج القطب حيث لا يتذكرك أحد سوى مراسلات الحكومة الروتينية والسناجب، هناك في تلك الغربة وذلك المنفى حضرت الشام في كتاباتي، في مطبخي وفي الأغاني العربية التي أسمعها بعناد مهاجر آسيوي وصل نيويورك للتو.
 فربما كان علينا أن نردم فحم ذكرياتنا تحت صخور الأسى العملاقة، لعل ما في قلبنا يلمع بعد كل تلك الحرائق.

*العربي الجديد

ترك الرد

Please enter your comment!
Please enter your name here