على الرغم من كلّ الإنكسارات والهزائم والتعثّر والخذلان الذي أصاب ثورات “الربيع العربي” وانتفاضاته الشعبية، لا سيما في حالة الثورة السورية، إلا أنها أسدت خدمةً جليلة لشعوب المنطقة، من خلال الكشف عن كثيرٍ من خفايا مشاريع الإسلاميين (أو سوادهم الأعظم كي لا يسأل أحدهم مستنكراً “لماذا التعميم”)، وتعرية شهوتهم للسلطة وطبيعة فهمهم لها وأسلوب ممارستها.
والكلام هنا يصحّ على دعاة “الإسلام السياسي” كما على إخوتهم الأكثر مباشرةً وصراحةً ووضوحاً، أي “التيار الجهادي” باختلاف درجات تشدّده. ذلك أنّ اختلاف الطريقة والأسلوب لم يكن ليعيق اضمحلال الفروق وغياب الحدود تدريجياً بين المتطرّفين وبين مدّعي الاعتدال من الإسلاميين كلّما اقتربوا خطوةً من لحظة تحقيق الهدف. محطّ خلافهم لم يكن في أيّ يومٍ على الغاية ذاتها، وإنما حول سبل الوصول إليها وتحقيقها. رغم ذلك هناك عاملٌ لا يمكن إغفاله كونه يشكّل القاسم المشترك الأهمّ بين أساليب الإسلاميين جميعاً، وهو إضفاء مسحة من القداسة على مشاريعهم التسلّطية، من خلال صبغها بادعاءات دينية وعبارات تراثية منتقاة بعناية وفق ما يخدم أجنداتهم.
في سوريا، لأسباب دينية أو نتيجة الإحباط واليأس أو كردّ فعل على مجازر النظام الطائفية، خُدع كثيرون بمزاعم الإسلاميين خلال مرحلة ما من مراحل الثورة السورية. غير أنّ دور سياسيّيهم السلبي في هيئات المعارضة، والأهم تلك التجربة المريرة التي خبِرها الناس تحت حكم قوى الأمر الواقع من التنظيمات الإسلامية على تعدّد مسمياتها وارتباطاتها، جعلت المشهد يتغيّر تدريجياً فراح النّاس ينفضّون عنهم، وتعالت الأصوات تفضح ممارساتهم وتقارنهم بالنظام، لا بل تتهمهم بالعمالة له والقيام بما يخدمه. حتى أنّني شخصياً وبعد كل ما رأيت من افتضاح أمر الإسلاميين بالغت في التفاؤل مرّةً وتساءلت “هل يمارس التاريخ مكره وتشقّ العلمانية طريقها في البلاد العربية بسواعد “المجاهدين؟!”.
لكنّ الإسلاميين لم يقفوا مكتوفي الأيدي، وسارعوا إلى استنفار أذرعهم الإعلامية و”الذباب الإلكتروني” خاصّتهم، من أجل التعمية على فشلهم وستر ما انكشف من نقاقهم وعورات أيديولوجيتهم، وأيضاً لقطع الطريق على إمكانية تسلل الأفكار العلمانية التي تنادي بفصل الدين عن السياسة إلى من انفضّ عنهم من جمهورهم، فلجؤوا إلى استخدام سلاحهم الاستراتيجي: مماهاة الإسلام بهم وتحويل كل نقد موجّه لهم إلى تهمة “الإساءة للإسلام”، أو على الأقل الزعم بأنّ هذا هو دافع من ينتقدهم، نظراً إلى أنّهم لا يكفّون عن تقديم أنفسهم كأمناء على الإسلام وحرّاس له.
وبغية استنهاض مشاعر العامة والعمل على توجيهها من أجل الالتفاف على القضايا الأساسية موضوع النقد، وعبر أساليب مضلّلة تنطلي على كثير من المسلمين، يمرّر الإسلاميون أكاذيبهم بعد تغليفها وزخرفتها بأحاديث نبوية وآيات قرآنية. تكتمل عملية خلط الأوراق من خلال نقل الصراع إلى ساحة “المقدّس”، بحيث يتم التعامل مع كلّ نقدٍ لأيديولوجيا الإسلاميين أو أي إشارة إلى انتهازيتهم السياسية أو فضح ارتكاباتهم المشينة، وكأنه هجوم موجّه ضدّ الإسلام نفسه كدين، وبالتالي ضد المسلمين كمؤمنين بهذا الدين، فيزدهر”التشبيح الإسلاموي” والتنمّر باسم الإسلام ضدّ كل من ينتقد الإسلاميين.
أما النقطة الأهمّ فهي ادعاء الإسلاميين أنّ ما يوجّه إليهم من انتقادات هو جزء من “مؤامرة تستهدف الإسلام”، يسعى العلمانيون من خلالها إلى هدمه بحجّة نقد الحركات الإسلامية، وهكذا تجري شيطنة العلمانية والعلمانيين، مع الحرص على مماهاتهم بأنظمة الإستبداد كونها ادّعت العلمانية (وهو ادّعاء باطل توسّعت في تفنيده غير مرّة)، أو لأن هناك علمانيين أيّدوا النظام، وهذا مردود عليه بأن إسلاميين كثراً أيضاً يؤيّدونه. ومن الأراجيف التي يردّدها الإسلاميون – وللأسف وجدت صدىً واسعاً بين المسلمين – الخلط بين العلمانية والإلحاد، علماً أنهما وهما أمران مختلفان كليّاً عن بعضهما، وكذلك القول بأنّ العلمانية تناصب الدين العداء، وهذا هراء لأنّ العلمانية ليست معنية بنفي المعتقدات الدينية بحد ذاتها، وإنما ترفض تدخّل الدين في السياسة بالقدر نفسه الذي تحمي الدين من عبث السياسيين واستخدامهم له.
من الطبيعي أن تكون العلمانية هدفاً لسهام الإسلاميين في كل حين، باعتبارها تمثل كلّ ما يناقض أيديولوجيتهم ورؤيتهم للعالم. لكن ما لا يمكن فهمه ويدعو للعجب أن يساندهم بعض من يقولون عن أنفسهم أنهم ديمقراطيون وعلمانيون، فتراهم يدافعون عن الإسلاميين تحت يافطة الديمقراطية والعلمانية. ربّما نسي هؤلاء أوتناسوا أنّ الإسلاميين، بالدليل العملي في الواقع الملموس، أثبتوا للعالم عبر استبدادهم وطائفيتهم وعقلية الإقصاء التي يتمتّعون بها، وكذبهم على الناس واستهتارهم بأرواح البشر ومصائرهم، مسلمين وغير مسلمين، باسم شعارات كبرى برّاقة وقضايا مصيرية مزعومة، فضلاً عن فسادهم واحترافهم النهب واللصوصية، أثبتوا أنّهم يجسّدون الوجه الآخر لعملة استبداد أنظمة العصابات المستبدة القذرة القاتلة الطائفية النهّابة التي زعموا معارضتها والثورة عليها، وإن فاقتهم الأخيرة إجراماً في ممارساتها، كحال الطغمة الأسدية في سوريا، بحكم تفوّقها في امتلاك الوسائل والأدوات ودعم الحلفاء.
إن استعانة السلطة السياسية بالدين واستخدامه لأغراض سياسية من أكثر وصفات الاستبداد نجاعةً، وهي تبلغ ذروة اكتمالها عندما تجتمع السلطة الدينية والسياسية وتندمجان في قبضة الجماعة الحاكمة مولّدةً “الاستبداد المقدّس” الذي يتحكّم بدين الناس ودنياهم، وهذا ما يطمح له كل مشروع سياسي يقوم على أساس ديني. الإسلاميون فعلوا ذلك في إيران وأفغانستان، وفي كل مكان مارسوا فيه استبدادهم باسم الإسلام. شراستهم في مهاجمة العلمانية والعلمانيين لن تفعل سوى التذكير بهذه الحقيقة وتأكيدها.
*المصدر: بروكار برس