قبل أيام توفّي في باريس عبد الحليم خدّام النائب السابق للأسدَين. لا تبدو كثيرة الأشياء التي يمكن أن يتذكّره السوريون بها أو يتحدثوا عنه من خلالها، فضلاً عن أنها ليست من الأمور الإيجابية ولا المشرّفة، من وجهة نظر كثيرٍ منهم على الأقل، سواء كانوا من مؤيدي نظام الأسد أو المعارضين له.
من ذلك القليل الذي يمكن تذكّره عن خدّام بعد نهاية خدمته المخلصة لنظام الأسد، ربما سيكون مفيداً التوقّف عند التّحالف الذي سبق أن جمع بين خداّم وجماعة الإخوان المسلمين في سوريا، بوصفه الموقف الذي أراد الرجل من خلاله تأكيد جذرية موقفه المعارض المستجدّ، وأنّ تغيير وجهته السياسية كان قراراً لا عودة عنه. غير أنه لن يكون من باب المبالغة القول إنّ الانتهازية والبهلوانية السياسية، فضلاً عن النفاق المتبادل، كانت من أبرز ما يمكن أن توصف به تلك الخطوة، وتالياً ما تعكسه من سمات عند الحليفين لا تخطئها العين.
لم يجد الإخوان ولا خدّام أدنى حرجٍ في ذلك التحالف، الذي ظهر بعد أشهر قليلة من مغادرة الأخير سوريا إلى باريس، حيث أعلن هناك “الخروج من النظام”، وفق تعبيره، دون أن يبدي أسفاً أو ندماً أو اعتذاراً عن ماضيه السلطوي المديد، وهو الذي بقي لنحو أربعة عقود ركناً ثابتاً ووجهاً بارزاً ضمن تركيبة السلطة البعثية/ الأسدية التي لطالما اقتات “الإخوان المسلمين” على عدائهم التاريخي لها. ليس هذا فحسب، بل كان يُعدّ من بين “صقور” النظام وأبرز وجوه “الحرس القديم” المحافظ والرّافض لأيّ انفتاح أو إصلاح، خلال فترة الأوهام القصيرة التي رافقت “ربيع دمشق” عقب وراثة الأسد الابن للسلطة. وطبعاً لم يكترث الإخوان لكلّ ما شبهات الفساد المحيطة بخدّام وأولاده، والتي تؤكّدها ثرواتهم الطائلة وقصورهم الفارهة.
هكذا، من دون مقدّمات، وضع أعداء الأمس “المبادئ” وتاريخ الخصومة الدموي الطويل جانباً وتوصّلوا في آذار/ مارس عام 2006 إلى تشكيل “جبهة الخلاص الوطني من أجل تغيير النظام السوري بالطرق السلمية”. لكن بالخفّة نفسها التي نشأ فيها التحالف، انفرط عقده بعد نحو ثلاث سنوات من تأسيسه.
أدار الإخوان المسلمون ظهرهم لخدّام مطلع عام 2009، وذلك في إطار الموقف الذي اتّخذوه بـ “تعليق النشاط المعارض” لنظام الأسد، زاعمين أنّ السبب هو وقوفه إلى جانب حركة حماس (بالأحرى جماعة الإخوان المسلمين في فلسطين)، خلال الحملة العسكرية التي شنّتها إسرائيل في ذلك الحين ضدّ قطاع غزّة (استمرّت من 27 كانون الأول/ ديسمبر 2008 وحتّى 21 كانون الثاني/ يناير 2009). وفي نيسان/ أبريل من العام نفسه أعلنت الجماعة رسمياً الانسحاب من “جبهة الخلاص” احتجاجاً على ما وصفته بـ”حملة الافتراءات والاتهامات” التي تشنها أطراف في الجبهة على الجماعة بعد إعلانها تعليق أنشطتها المعارضة.
وفقاً للصحف، جاء ردّ خدام على ذلك بالقول “إن الإخوان كانوا يشكلون عبئاً على الجبهة، وهم يجرون حواراً مع النظام السوري عبر لجنة أمنية شكلت خصيصا لهذا الأمر”. كان هذا مؤشّراً يدل على أنّ التذرّع بحرب غزّة وموقف النظام منها كان ظاهر الموقف لا أكثر، أمّا حقيقته فكانت تهيئة أجواء مؤاتية تدعم جهوداً كانت تُتدَاول أحاديث بشأنها آنذاك عن وساطة بين الإخوان وبين نظام بشار الأسد، سعى إليها أردوغان إذ كانت العلاقات وقتها بين الرجلين في شهر عسلها.
ومن أمثلة رحلة التناقضات الخدّامية الجديرة بالذكر موقفه من إيران. فخلال المؤتمر العام الثاني الذي عقدته “جبهة الخلاص” في برلين أواسط أيلول/ سبتمبر 2007، حذّر خدّام في كلمته التي ألقاها خلال افتتاح المؤتمر من إستراتيجية إيران الإقليمية والتي تهدف إلى الهيمنة على الشرق الأوسط بعد أن نجحت في إقامة مرتكزات لتحقيق هذه الإستراتيجية في لبنان وفلسطين وسوريا والعراق ومناطق أخرى”، وهو ما تكرّر في البيان الختامي الرسمي الصادر عن المؤتمر إذ تضمّن أيضاً تحذيراً من “تعاظم الدور الإيراني في المنطقة وتزايد نفوذه خاصة داخل سوريا في إطار التحالف الاستراتيجي بين طهران ودمشق”. سيعود خدّام خلال سنوات الثورة السورية إلى الحديث في مقابلاته المتلفزة عن أطماع إيران الكبيرة في المنطقة وكيف أنّ “تفكيك العالم العربي حلم إيراني لاستعادة الإمبراطورية الفارسية بطابع ديني إسلامي”.
لكن ما لا يعلمه كثيرون أنّ عبد الحليم خدّام نفسه لم يبخل في مديح الثورة الإيرانية، وأطنب في التعبير عن ثقته بـ “الوليّ الفقيه المرشد الأعلى للثورة الإسلامية علي الخامنئي”، كما يصفه، وذلك في كتاب له بعنوان “التحالف السوري الإيراني والمنطقة”، صدر سنة 2010 في القاهرة عن دار الشروق. ففي كتابه استعرض خدّام أدقّ التفاصيل المتعلقة بالعلاقات السورية الإيرانية في المرحلة التي تولّى خلالها مسؤولية الملفّ الإيراني أثناء عمله وزيراً للخارجية. كما استفاض شارحاً دوره شخصياً في تكريس وتطوير التحالف الإيراني مع سوريا، ومعلومٌ أن إبران نجحت في دخول الساحة اللبنانية والفلسطينية عبر هذا التحالف. بعبارة أخرى، فإنّ خدّام في كتابه هذا اعترف بدوره في المشروع الإيراني في المنطقة، والذي كان قبل الكتاب وبعده يحذّر منه!
يقولون “لا يجوز على الميت إلا الرحمة”. لا بأس بذلك، على ألا يؤدّي ذلك إلى موت الحقائق ودفنها والترحّم عليها معه.
المصدر: بروكار برس