يقولون إن هذا الوباء يقتضي إخفاء نصف الوجه، ويقول هو: عندما يصبح الهواءُ هو الخطر، على الشخص أن يخفي وجهه كله.
كان صانعاً للأقنعة، يلجأ إليه جميعُ من يريدون تكذيب وجوههم. لكن عمله، في هذه المدينة الجاحدة، (وجميع المدن جاحدة)، اقتصر على دفن الوجوه في لحظات الأمان وليس لحظات الخطر: أقنعة حفل تنكري للسادة، أو أقنعة حفل عيد ميلاد لأطفال السادة.
كان هذا حلمه عندما بدأ: أن يأخذ مقاييس الوجه، بالطريقة التي يأخذ بها خيّاط مقاييس جسد كامل، ثم يعطيك موعداً تتسلم فيه قناعك. لكن صانع الأقنعة وجد نفسه بالمقابل محض خادمٍ للّحظات الجاهزة، وهو ما لم يفكر فيه على الإطلاق حين قرر لأول مرة أن لا وجود لوجهٍ يستطيع أن يحيا دون قناعه.
لم يلجأ له هاربٌ ليُخفي وجهه حين كان الجميع يهربون من الزنازين بملامح غيرهم، لم يطلب أحدهم منه قناعاً في ثورة حين كان الوجهُ هدفاً للقنّاص، والآن، لا يطلب أحدهم منه قناعاً في وباء حين أصبح الوجهُ هدفاً للعالم.
كان ينظر لوجوههم الملثمة ويسأل: أي قناعٍ ذلك الهش، بزرقةٍ سماويةٍ باهتة، مشدود للأذنين بفتيلتين، كأنه، وقد غمره العرق، سروالٌ مبتلٌ يستر عورة؟ أي رضا بأن تكون المدينةُ كلها، في لحظة، نصف وجهٍ أزرق؟ يسأل صانع الوجوه ويجيب: طالما لا تتطابق الوجوه، فمن الخطيئة أن تتطابق الأقنعة.
هل نجوا رغم ذلك؟ لا. إنهم يموتون أيضاً، بجثامين لها رائحة الكحول، ذلك الذي يُميت أشياء كثيرة، لكنه لا يستطيع أن يُميت التراب.
وقد تخلى عنه زبائنه، زبائن الأيام السعيدة، أصبح يوجه الأسئلة لنفسه: أيهما أفضل، قناع يحمي حواس وجهك أم قناع يخفي ضعف ملامحك؟ وأيهما أكثر عرضة لقسوة العالم، الثقوب أم الملامح؟
أقنِعته، لذلك، كانت مليئة بالتجاعيد، والندوب، بالعاهات التي خلَّفها لهوُ الطفولة وبضربات النصال التي خلّدتها مشاجراتُ النضج. كان يصنع القناع بتاريخ الوجه الذي يكمن خلفه، فليس معنى أن تُخفي الملامح، أن تمحو تاريخاً كاملاً سطرته الجروح.
لكن هذه الأقنعة لم يطلبها أحدٌ أبداً. كانوا يطلبون قناع الملاك والشيطان، وجه الحيوان الأقوى والطائر الأشرس، كانوا يطلبون وجوه جميع من لا يعرفون ملامحهم، لتصبح وجوهاً جديدة لهم في مدينة اللحظات السعيدة.
أخيراً، عثر صانع الأقنعة على ما يجب عليه فعله: صنع لكل شخصٍ في المدينة قناعَ مستقبله، بملامح وجهه نفسها، لكن بالتجاعيد التي لم تطرأ بعد، بندوب السنوات القادمة، وبالأحزان التي تنتظر الفرصة لتطفو فوق الجلد.
لم يكن يقرأ المستقبل، لكنه كان يمنحه وجهه الملائم.
ولكي يضمن لهم النجاة، سد جميع الثقوب التي يتسلل منها الخطر كما تتسلل منها الحياة: منحهم عيوناً مغمضة، أنوفاً مسدودة، وأفواهاً مزمومة.
هكذا، استيقظت المدينة ذات صباح على آلاف الأقنعة التي تسبح في السماء، وبينما يتطلعون إلى أعلى، سقط كلُّ قناعٍ متحداً بوجهه، كأن كلٌ منها كان يعرف الطريق الصحيح إلى بيته.
منذ تلك اللحظة، لم يمت أحدٌ من أهل المدينة السعيدة، ولم يحيا…
المصدر: صدى