صبحي حديدي: مارادونا بين محمود درويش ودونالد ترامب

0

في مناسبة رحيل أسطورة كرة القدم الأرجنتيني دييغو مارادنا، استذكر الكثيرون في العالم العربي ذلك الإعجاب الشديد والفائق الذي حمله له الشاعر الفلسطيني الراحل محمود درويش، وأعادوا اقتباس فقرات من مقالته الشهيرة التي يقول فيها: «مارادونا لا يسأل غريزته. سقراط البرازيلي هو المفكّر المشغول بتأملات ميتافيزيقية حول الضربة الركنية. وزيكو يلاحق كابوس ضربة الجزاء، التي طارت من الملعب فطارت البرازيل من الحلم. وبلاتيني يُحسّن شروط التقاعد. وبيليه الخبيث يُجاهد لإخفاء الشماتة التي تصيب الملوك المخلوعين. لكنه يعرف شيئا واحدا هو أن كرة القدم حياته وأهله وحلمه ووطنه و.. كونه منذ طفولته الفقيرة في كوخ من تنك، تعلّم المشي على الكرة. كان يلف كرة الخيطان حول علب الصفيح. ولعل الكرة هي التي علّمته المشي، مشى من أجلها. مشى ليتبعها. مشى ليلعب بها. لقد تمحورت طفولته حول كرة الخيطان إلى أن ضحى أبوه براتبه الشهري ليشتري له كرة قدم حقيقية. وانطلق.. ليكون أصغر لاعب في منتخب الأرجنتين. وهكذا، ارتفع مارادونا ـ الولد المعجزة ـ من أشد البيوت فقرا إلى أوسع الآفاق، إمبراطورا على كرة القدم, لم يكترث في صباه بشاشة السينما والتلفزيون. لكنه احتل الشاشة ـ ليشاهده أكثر من ملياري إنسان، كما ترنو العيون إلى نجم في السماء ـ بقدميه. لقد رفعته الكرة، وارتفع بها، إلى أعلى أعالي الكلام».

في المقابل ليس طريفا تماما، بل هو أقرب إلى العته والاستيهام المرضي وبلادة العقل، أنّ الرئيس الأمريكي دونالد ترامب غرّد حول واقعة الرحيل لكن بعد أن خلط بين لاعب كرة القدم و«ملكة البوب» مادونا، بل لقد وضع صورة للأول يرفع كأس العالم وكتب: «حزين للغاية لرحيل مارادونا. شخصية عظيمة. كانت موسيقاها رائعة وأذكر أنني استمعت إلى أسطواناتها مطلع الثمانينيات. فلترقد بسلام». مفهوم أن يكن درويش قد أحبّ مارادونا أكثر من محبة ترامب للأخير، فالنجم الأرجنتيني كان صديقا للقضية الفلسطينية، حتى على خفر أحيانا، كما أنه كان معاديا للسياسات الإمبريالية الأمريكية في القارّة، ويسجّل له الهتاف ضدّ الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش خلال زيارة الأخير إلى الأرجنتين، مرتدياَ قميصا كُتب عليه «بوش مجرم حرب». كذلك كان مارادونا مقربا من زعماء في أمريكا اللاتينية لم يكونوا أتباع البيت الأبيض، أمثال فديل كاسترو، وهوغو شافيز.
والمرء يطرح السؤال المشروع التالي، كلما غرّد ترامب على هذا النحو البائس: ألا يكلّف خاطره عناء التدقيق مع أحد مستشاريه، أو حتى هرش رأسه قليلا للتحقق من مقدار العته في ما يسوقه من أقوال؟
عود على فقرة أخرى في مقالة درويش، وجدتُها أفرطتْ في مديح علاقة لاعب كرة القدم بالوقت، والساعة: «ماذا نفعل بعدما عاد مارادونا إلى أهله في الأرجنتين؟ مع منْ سنسهر، بعدما اعتدنا أن نعلّق طمأنينة القلب، وخوفه، على قدميه المعجزتين؟ وإلى منْ نأنس ونتحمّس بعدما أدمناه شهرا تحوّلنا خلاله من مشاهدين إلى عشّاق؟» ليس ضمن مسعى هذه السطور عقد أي مستوى من المقارنة بين جهازَيْ التفكير عند درويش وترامب، فالخلاصات ليست شبه قاطعة في هذا المضمار فحسب، بل الأرجح أنّ الخوض فيها رياضة مجانية تلاعب المكشوف والمتفق عليه. المسعى المركزي يظلّ، في المقابل، محاولة هذين الجهازين تلمّس أبعاد حضور، وبالتالي غياب، كلّ من مارادونا ومادونا. لستُ واثقا، بالطبع، من محتوى وشكل ردّة فعل درويش على رحيل الأسطورة الكروية الأرجنتينية، لو كان الشاعر على قيد الحياة؛ لكني، من جانب آخر، مطلق الثقة في استمرار درويش على عشق شخصية مارادونا الكروية حتى ساعة رحيله.
لا تتوفر، في المقابل، أو بالأحرى لا تتوفر في حوزتي على الأقل، معطيات سِيَرية كافية تؤشّر بوضوح أعلى نحو طبائع التقدير الجمالي الذي محضه ترامب لشخص مادونا وفنونها المختلفة، وتسمح استطرادا بتأصيل مقادير النزاهة في حزنه على رحيلها. بل تبدو تغريدته اليتيمة في هذا الصدد أقرب إلى ردّ بعض بضاعته الشهيرة حول «الأنباء الزائفة» إلى مصادرها عنده هو شخصيا، إذ سارع إلى محو التغريدة فور افتضاح خَلْطه بينها وبين مارادونا؛ بعد فوات الأوان غنيّ عن القول إذ احتفظت إدارة تويتر بالتغريدة بعد أن وسمتها بعلامة التأكد من صحة المحتوى.
بذلك قد يكون مفهوم الجماهيرية عند درويش والشعبوية عند ترامب، هو الأجدى في قراءة الموقفين؛ بمعنى أن الشاعر صاحب الجماهيرية الفريدة، العريضة والمتنوعة والعابرة للأعمار والأذواق والحساسيات، لم يتوقف عن تثقيف ذاته بأسباب تعاظم تلك الجماهيرية، والإصرار في الآن ذاته على مكاشفة جمهوره حول أنماط وشخوص وألوان داخل المستويات الأعمق في الثقافة الشعبية (وبينها الكرة السحرية بالطبع) والتعبير عن الرأي في بعض تلك الأنساق من دون حرج أو تعفّف أو ترفّع. شعبوية ترامب قد تكون وراء اندفاعاته العارمة لإرضاء شعبوياته، التي من المنطقي أن تتقبل مادونا أكثر من مارادونا، إنْ لم يكن تحت سلطة عنصرية فربما تحت طغيان «التفوّق العرقي الأبيض».

*القدس العربي

ترك الرد

Please enter your comment!
Please enter your name here