صالح الرزوق: لوحات الهولندية غيتا باردول.. من سياسة التخريب إلى التوازن

0

انتقلت الهولندية غيتا باردول Gitta Pardoel من فن التنصيبات في الهواء الطلق، وخلق إيقاع بصري غريب على الطبيعة، إلى لوحة تحمل كل آثار الفوضى النفسية، التي تعصف بعالمنا المعاصر. وفي هذه اللوحات لم تكن حريصة على كتابة مفردات متسلسلة، بقدر حرصها على تخريب المعنى. لقد اجتهدت، ولنأخذ الكلمة الأخيرة بمعناها الحرفي، لتخريب إحساسنا بالألفة، ولإنعاش كل عوامل الاغتراب والاستلاب: سواء على صعيد البصر أو النشاط النفسي. ويمكن القول إنها أسقطت ما بداخلها على جدار وعينا.
وهذه الحالة يمكن أن تجدها في مسرح القسوة (أنطونين أرتو)، أو في الرواية الكارثية (أنجيلا كارتر)، أو حتى في سلسلة الرسومات السيريالية (للثنائي دالي وبيكاسو). لكن هذا لا يعني أنها ترتبط بهذه الزمرة عضويا. والحقيقة إنها متحولة عنهم، بمعنى: الاستنساخ والطفرة.
وللتوضيح: كانت الفنانة باردول حريصة كل الحرص على اقتباس خطوط ولوعة مواطنها الأسطوري فان كوغ، مع إضفاء ترتيب مختلف على عناصره ومكوناته. وبهذه الطريقة صهرت حساسية كوغ في مرجل العقل اللاتيني العاطفي.
إن الناظر للوحات وتنصيبات الفنانة سيلاحظ تلازم الأضداد، تحرير المعنى وتقييد الخطوط والألوان. فعدد الألوان محدود (واحد أو اثنان في أي تشكيل) مع خطوط قليلة ومنحنيات كثيرة، لكن بدون أي نظام أو ترتيب، وربما النظام الوحيد المتبع في هذه الحالة هو تكسير الأشكال الكبيرة وتجزئتها.

ورافقت ذلك جملة بصرية تترك عند الناظر انطباعا غريبا بالكآبة والحزن، كأننا أمام جنازة ميت، ولكن هذا لا يمنع أنها احتفظت بخيط نور أو نقطة إضاءة. ففي كل لوحاتها بذور مدفونة وجاهزة للتطور. وقد وفقت بذلك في آخر دفعة من إنتاجها، وبالتحديد في أواخر عام 2019. في هذه المرحلة أضافت أشكالا مفهومة تحاكي الطبيعة بالسكون والبساطة، ناهيك عن كرمها بالألوان. ولا تخلو أي لوحة من 5- 6 ألوان أساسية، وفي المقدمة الأحمر والأزرق والأخضر، أو ألوان البساتين والحقول. وباعتقادي إن التحول هنا بصري فقط. إنه من الناحية الظاهرية ولا يلمس فلسفة واستراتيجية الفنانة. فالألوان من عصر النهضة: وإلى جانب أنها ساطعة هي براقة كذلك. بتعبير آخر درجة عمق وسماكة كل لون أقل مما كانت عليه. وهذا يساعد على تطويف المعاني وليس ترسيبها أو تراكمها.
ثم نظرا للمبالغة بالتبسيط لحد الإفراط لا تخلو الأشكال من تخيلات سيريالية، لكن بمعايير المحاكاة. وبتعبير آخر: لا تتخلى الفنانة عن تحريف الواقع والمشاعر. والمسافة التي تفصل الحقيقي عن الواقعي هي المساحة التي تلعب بها الخطوط. وهذا يحدد سيريالية الأفكار، بترتيب العلاقة بين الشيء والتعبير عنه. فهو سيريالية علاقات ومواضع، وليس سيريالية تكوين وتشكيل. لقد كانت الصور معقولة (مثل دب أو طير أو وجه إنسان) لكن علاقتها مع ما حولها لا يقبله المنطق.
وإذا كانت الفنانة تعمد لتجزيء الأشكال وتحطيمها في مراحلها السابقة، فهي تحتفظ بسلامة تكويناتها في المرحلة الراهنة، وهذا يساعد على تخيل عالم حقيقي لكنه يتطور من فوق الواقع. وربما هذه أول حالة تصادفني وتعاند أطروحة زيغموند باومان عن «الحداثة السائلة». إنها حداثة أضلاع وحدود، وبداخلها غلاف إبهام يغلف المضمون. وربما هذه هي الغاية المرجوة من الفن المعاصر: تفسير الأشياء المعقدة والغامضة بتجريدات بسيطة ومفهومة. إن التبسيط طريقة ضرورية للتفاهم. وهو أيضا نوع من أنواع المصالحة مع الذات لاستعادة ما يسميه الفيلسوف الألماني تون ليمير «الوجود الطبيعي»، وما ترى الفنانة في إحدى مقالاتها إنه «شكل من أشكال التوازن بين الثقافة والطبيعة».

*المصدر: القدس العربي

ترك الرد

Please enter your comment!
Please enter your name here