سوسن إسماعيل: على هامش المنفى: أسئلة حضور وغياب

0

مجلة أوراق- العدد9

ملف منفى الحسرات والمسرات

سُئلَ الروائي الإيرلندي الشهير جيمس جويس مؤلف رواية عوليس الشهيرة إبان غربته في القارة الأوروبية إن كان يتوقَ إلى العودة إلى (دبلن) التي يهواها فقال: ومتى تركتها؟!

ربما هذا هو حال أي مهاجر، مُهجّر، مغترب، أو منفيّ، والحالة الأكثر اقتراباً في الوقت الراهن هي الحالة السورية.

أن تفتحَ الجرح السوري على مصراعيه، وتنقله عبر السرد من حالة ذاتية متخمة بالوجع إلى حالة إنسانية، ربما عابرة أو مشابهة تعاني حرقة المنفى، حيث ما عادت الأمكنة تستهوينا وما عادت أجسادنا إلا معابرَ للكلام، نحن الحاضرون، الغائبون، لم تستطع السنوات الأربع من الغياب عن الوطن أن تزيلَ عنا خصوصية الهوية (الانتماء).

هذه الكينونة البشرية ليست إلا امتداد طبيعي لجغرافيا الأرض، فإما أن تكتشفَ من اللغة في محاولة لدمج المكان والزمان في علاقة جدلية كالموت والحياة والشوق والحنين والمنفى والوطن، والاختزال هو كسرٌ لنوافذ البقاء.

صندوق البريد باتَ هو العالم المستجد، الأقرب، العين التي لا تتعطلُ للمغترب، ربما هو الوطن، والوطنُ كان وهماً؟

نجففُ في هذه اللغة كالطاعون الوقت والاحتراق في أوجه وما زالت الأرصفة تحتفظُ بتأملاتنا، أنهكتنا الإذاعات والقرارات، لم يكتفوا بخطوط حمر بل تجاوزوها حتى الرصاص، وبات الموت السوري كصفيح ينثرون عليه رمادهم. نزحفُ بلا مبالاة صوب نداءات تغفو رويداً رويداً في هذه العُريّ المستديم، لا مجيبَ، لا مجيبً إلا صوت نايًّ في زحمة الفوضى اللامتناهية.

من يحوّل هذا القحل إلى ربيع!

مهمشون نحنُ أو حتى غائبون، هي وحدها اللغة ستفتحُ مدارك الوصال وتزجُ بأسئلتنا إلى منعطفات أكثر ضبطاً وربما لقواعد ولوائح تجدها صعبة التنفيذ، في الوقت الذي وجد الكثيرون في الغربة ملاذاً أو ربما الفردوس المنتظر، نجدُ على الجانب الآخر من لم يجدْ فيها إلا محطة انتظار تأملية، أو محطة للخيبات المتكررة، سيغادرها لرحيل قادم!

في الوقت الذي يرمي بك الوطن إلى ضفاف المنفى ويزجُ بك إلى عوالم وفضاءات ثقافية واجتماعية وإنسانية تختلفُ كلياً معها في كثير من الجوانب وفي طريقة التعامل بها ومعها، في ظلّ هذه الأزمات لا نجدُ إلا أنفسنا فنصنعُ تجاربنا ونحصدُ بقايا آمال وآلام، أسئلة مكثفة لهذا الحضور عن العلاقة مع المكان، اللغة، وحضور الآخر، أسئلة تنحازُ إليها بنصف إجابات غير شافية لهذا الكمّ من العذابات التي تراودك، أسئلة منشغلة بغيابها.

هذا التهجير القسري للذات السورية سيبقى السؤال الذي سيردده جيلُ الحرب إلى مدى بعيد، هل نحنُ محاطون بكل صنوف الديمقراطية ومع ذلك لم نستطع أن نقفلَ قنوات المعاناة ونهدّئ من وهج خطابات الوجع وحلم الرجوع.

ومن القيمة بمكان عندما يتساءلُ المنفيّ / ربما السؤال الأكثر قيمة؟ هل يستطيعُ المنفيُّ أن يتجاوزَ قيودَ اللغة وإملاءات الآخر لينشغلَ بعوالم إبداعية للأمكنة الجديدة في محاولة لتجاوز الخيبات والانكسارات والعجز الفكري والحياتي أمام الهوية الطارئة والتقليل من حالة الإقصاء ؟!

للمكان سطوة الهوية، ولتحصلَ عليها، عليك أن ترتشفَ من غرائبيتها وسحرها ونجد أنفسنا أكثر عمقاً في معاييرها ولوائح قيمها متجاوزين حالة الهلع من النهايات.

الغربة كمصطلح وجداني بعيداً عن أبواب المعاجم وفصولها، أجدها عصية على اللغة في تكثيفها المعنوي والحسي بنيوياً وسيميائياً.

ودعوة المنفيُّ لتجاوز حدود منفاه، هي دعوة لمحاربة كلّ هذا الخراب الروحي وتأسيس لعتبات جمالية للمعرفة وللوجه الآخر للمنفى في محاولة لكسر التضاد الماثل بين المنفيِّ وأرض المنفى وخلق فضاءات تنبضُ بالحياة.

للغربة هواجس وظلال تأخذك إلى منافي أكثر عمقاً ولربما إلى أجراس جديدة ترغبُ في أن تُدقَّ على مسامعك، فأتذكر دمشق (2013.5.18) كانت ليلتي الأخيرة فيها، أغلقتُ بابَ الشقة وقرار العودة كان ملغياً، نعم كانت الليلة الأخيرة، ليلة كانت مُتْعبة، وباهتة جداً، لا لون لوداعي لها، كانت مواجهة صعبة ومعادلة مستحيلة، انطلقت السيارة نحو مطار دمشق، من نافذة السيارة عانقت كلّ تفاصيل الطريق من قدسيا إلى ساحة الأمويين مرورا بالبرامكة حتى الحواجز العسكرية تخطيتها بألبوم من الصور، لم أزنّرْ الروح إلا بالذكريات وحكايا كلّ حارات باب توما وبيت الياسمين ملتقاي مع الأحبة ..

نعم اخترنا الرحيل…! يقيناً لابدَ منه في زحمة الموت والقتل البشع للروح السورية، أنْ تختار الرحيل دون عنوان إلى اللاحدود هو في حذ ذاته موت آخر ترتكبه في حقّ ذاتك، يقول عمر الخيام في رائعته (رباعيات):

لا تشغلْ البالَ بماضي الزمانِ

ولا بآتي العيـشِ قبلَ الأوانِ

واغنمْ من الحاضــرِ لـذاتــــهِ

فليسَ في طبعِ الليالي الأمانِ

هل يمكن لأيّ مهاجر (والسوري حصراً) أن يتجاوزَ هذا الكمّ من الأزمات الطارئة، أزمة الثقة، الثقافة، والهوية، هل يمكنه أن يتجاوزَ مشاهد الوقوف على الأطلال ويقتربَ أكثر إلى ما ذهب إليه وقصده الشاعر الروماني هوراس بأعوام قبل الميلاد: (أيّها الغدُ فلتفعلْ ما يحلو لك، فقد عشتُ يومي).

ترك الرد

Please enter your comment!
Please enter your name here