حزينة على بيروت وأهل بيروت يوجعني لبنان كما أوجعتني سوريا، وكما أوجعتني كل بقعة أغرقتها الدماء في شرقنا الموبوء بالأسى منذ كنا وكان هذا الشرق.. لا نعلم بعد سبب الانفجار الذي حصل مؤخراً ببيروت، لكنني أعلم أنّ اللبنانيين انفجروا قبل هذا الانفجار الرهيب قهراً وتعباً من الفساد الحكومي والإهمال وسوء الخدمات، ومن وضع بلدهم رهينة لأجندات لا تخدم وطنهم، وتخدم فقط أجندات دول أخرى، لديها مشاريعها الخاصة في المنطقة، هم يريدون وطناً لا تتقاسمه المحاصصات الطائفية، وتكون الأولوية فيه لمصلحة لبنان واللبنانيين عموماً، وطناً ليس رهينة لأحد، وهم لذلك نزلوا إلى الشوارع وطالبوا بالتغيير فيما سبق، مثلهم مثل كل شعوب أوطاننا في هذا الشرق المنكوب بالأسى التاريخي.
هذه الأوطان تقتلنا ونقتلها، منذ بدأت سيرتنا الأولى كشعوب تعيش في منطقة الشرق الأوسط ومعظم المنطقة العربية، هذه المنطقة وكما يقول التاريخ بحر من الدماء لا ينضب، موبوءة بالحداد والأسى والظلم، تجترّها الكوارث والمصائب عبر العصور، ويتربّص بها الجميع، ويسودها طغاة يتحالفون مع طغاة، يقتل أبناؤها بعضهم بعضاً، مرة بسبب الدين، ومرة بسبب السياسة، ومرة بسبب الأطماع، وفي كل مرة يخسر الجميع، ومع هذا فصخب انتصارات الهزيمة يصمّ الآذان، حيث ترقص القطعان ويسجن الأحرار وتزوّر الحقائق، وويل للمشككين.
أوطان تقتلنا بقسوتها حين تدير وجهها عنا، نحن الولعون بمحبتها، ونقتلها بحروبنا الغبية والعبثية، تقتلنا أيضاً حين ترغمنا على هجرتها وهي تحتل كل أوصالنا بالحنين، ونقتلها أيضاً حين نصمت عمن يحكمنا من طغاة متواطئين مع طغاة آخرين لامتصاص دمائنا، فساداً وقهراً وعهراً حتّى نتوه، نرحل، أو نسجن أو نموت، وبعض الموت عيش لا يشبه الحياة.
لقد قتلنا القهر يا سكان الكوكب، بل ربما قتلنا التاريخ وظلمتنا الجغرافية، ونحن شعوب لم نعرف أن نتوقّف أبداً عن الموت والحروب والهروب الى المنافي، منذ بدأ التاريخ يخطّ حروفه الأولى في منطقتنا، ومنذ بدأت الجغرافية ترسم نزاعاتنا الإقليمية وحدودنا، حسب أهواء كل الآخرين إلا نحن.
بلادنا ياسكان الكوكب تختنق يومياً بفساد حكوماتها، وبدخان الحروب، والأوبئة والتخلّف والنفاق الإعلامي والاجتماعي، وتخرّ شعوبها جوعاً بذنب حكامها العابثين بكل شيء حتّى أنفاسنا وأحلامنا ومصائر أولادنا.
بلادنا المقتولة أيضاً تحتاج مواطنين تتملكهم إنسانيتهم وأوطانهم قبل كل شيء، وليس انتماءات أممية وقومية وطائفية وإثنية، وكل شيء لا علاقة له بالمصلحة العامة لهذا الوطن القاتل والمقتول في آن معاً، بلادنا الحزينة تحتاج حكومات وقادة قابلين للتغير دون أعجوبة، تختارهم شعوبهم بناء على مشروعهم الوطني والاقتصادي والسياسي، الذي يخدم أوطانهم، ويخدمهم كمواطنين تحت سقف القوانين والآليات التي تضمن المحاسبة وتداول السلطة ولا تكرّس الدكتاتوريات ضمن آليات ديموقراطية، ودول يسودها القانون والحريات ولا تذلّهم بالقمع والجوع والتحقير.. نحتاج كشعوب في المنطقة إلى النهضة المتكاملة، سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وإنسانياً وأخلاقياً، نحتاج لنبني أوطاننا من جديد ليكون محور الاهتمام في هذه الأوطان الإنسان قبل كل شيء آخر.
نحتاج أيضاً لبناء السلام الاجتماعي والسياسي والتمكين الاقتصادي وإعادة خلق دولنا، بحيث تحترم حكومات تلك الدول القانون الدولي الإنساني الاتفاقيات الدولية التي تصون السلم العالمي، حكومات تنفتح على العالم بالعلم والحضارة والتبادل المعرفي والثقافي، وتحترم علاقاتها الودية مع العالم بينما تحفظ سيادتها الوطنية من التبعية لدول أخرى أيّاً كانت، نحتاج للخلاص من فوضى السلاح وكل أشكال الميلشيات، وبالمقابل نحتاج لبناء جيوش وطنية تبني وتخدم الوطن ولا تقاتل خارج حدوده، والأهم جيوش لا ترفع سلاحها في وجه شعبها، بل تحميه وتحمي دستور البلاد من أي اعتداء. ولا أعلم هل هذا كثير؟ ألا يعدّ هذا بديهياً في كثير من دول العالم، لماذا تعجز بلادنا عن الخروج من هذا النفق البغيض، إلى عالم أكثر انفتاحاً وتحضّراً واحتراماً لمواطنيه.
تئنّ بيروت اليوم كما أنّت دمشق وبغداد وكل شبر من هذا الشرق المكلوم بكارثة ولعنة أزليّة، لن تزول إلا بنهضة شاملة تضمّد الجراح وتبني البلاد مرة أخرى، على أسس جديدة تماماً، وبتغيير جذري شامل في بناء البلاد حجراً وبشراً.
من قال إنّ الألم لا يصيب إلا صاحبه أخطأ حقاً، فقد آلمنا نحن، السوريين، وجع بيروت، كما آلمتنا كل أوجاع الحرب والقهر والدمار والاعتقال والنفي والجوع. وأخيراً، البحث عن النفس ضمن جائحة الكورونا في بلادنا.. سلامتك بيروت.
*ليفانت