وكأن اللبنانيين يعيشون فوق فوهة بركان.. حرفياً. وكأن انفجار مرفأ بيروت، الذي تسعى زمرة المنظومة إلى تطيير التحقيقات فيه بكل ما أوتيَت من قوة ونفوذ وحِيَل، كان الافتتاح “الكبير”، قص شريط انفجارات شبه يومية، قد يُحصي واحدنا منها أربعة على الأقل خلال الأيام القليلة الماضية فقط.
بالنسبة إلى بلد يعاني شح المحروقات المُخزّنة والمهرّبة – المدعومة وسوداء السوق – يبدو لبنان عائماً على سطح بحر خفيّ من البنزين والمازوت ومشتقاتهما، لا “ليستخرجها”، بل ليُشوى على نيرانها، ويقتل أبناءه حرقاً. الاهتراء حين يصطدم بمروحة الفشل، يعمّ ويتناثر وينغرس في الأرض حتى يصل إلى الفيول الجوفيّ، المخزّن بفعل فاعل، وكذلك الرمزي كثروة من ألاعيب اللصوص والقتلة.
وكأن النيران قررت الاستيطان في لبنان. والكوارث المفرقعة، بكافة أحجامها وفداحاتها، تدخل حيز الخبر اليومي والتأقلم مع الأزمات، شأنها شأن الاستشفاء والتعليم المتعثرَين، والفيول والدواء المفقودَين إلا في ما يداهم الوزير (لإطالة مفعول الدعم المشكوك أصلاً في دعمه للمحتاجين.. قبل رفعه؟).
من انفجار خزان المحروقات في بلدة التليل-عكار، وعدد قتلاه المستمر في التصاعد، والإشكالات التي اتخذت طابعاً طائفياً بين مغدوشة وعنقون على محطات البنزين، ومثلها إشكالات يومية توقع قتلى وجرحى والكثير من الكرامات. إلى انفجار في معمل لتصنيع القازانات في برج البراجنة قيل إنه بسبب عملية تلحيم، وانفجار محطة الشدراوي في حدث الجبة أثناء تفريغ صهريج. ثم انفجار برادات تعاونية النخيل على طريق عام معروب-صور (حيث ابتهجت وسائل الإعلام بإنجاز أن تسبّب بالهلع من دون أضرار جسدية). وما زالت تتوالى، حتى لحظة كتابة هذه السطور، أخبار عن انفجار ضخم في الكورة، وحريق قرب محطة وقود في المنصف.
الوقود صار الوجه الجديد لكراهيات الطوائف وارتكابات الشبيحة. الوقود الشبحيّ الذي يجد طريقه إلى كل طلقة نارية، وكل كبريتة مشتعلة وقدّاحة وبصقة تنّين، ويضيع عن خزانات السيارات ومولدات الكهرباء وسائر مشغّلات العَيش الأوّلي. الوقود الذي، إن وُجِد، اشتَعَل، وإن فُقِدَ، حَرَق وتولّى.
معلّم التلحيم صار قدراً، شخصية مرعبة من حكايات الجدّات يلاقيها الناس في يومياتهم، وعزرائيل مُساعده ومُلازمه المحترف.
أما تفريغ صهريج، فمناسبة للموت.. فرحاً؟!
في أيام الحرب الأهلية، كان يمكن الركون بالحد الأدنى إلى مواجز أخبار “سالكة وآمنة” الإذاعية، لرسم ما يشبه خريطة الطريق اليومية، لشراء الحاجيات وإيصال الأولاد إلى المدارس. ما كان هناك شيء مضمون بالطبع، والسيارات المفخخة وإطلاق النار على أبواب الأفران “حوادث” متوقعة في أي مكان وزمان. لكن السياق، غالباً، لم يبلغ درجة كاملة من السوريالية، وظل محتفظاً بمَنطِق ما، مُلتوٍ ودمَوي، لكنه منطقه الخاص. وفي الحرب اللامعلنة التي يخوضها اللبنانيون الآن، خريطة النجاة اليومية تشبه واحدة ظهرت في أحد أفلام “هاري بوتر”. خريطة “حية”، تتغير وتتبدل في “الوقت الحقيقي” بين يدي حاملها، وهي نفسها قنبلة موقوتة.
عبث كامل. البركان يتفجر قليلاً كل يوم، بالمفرق. صور الدخان والمصابين في مواقع التواصل، ما عادت مُفاجِئة، بل السؤال السريع هو: أين؟ الأرض تميد بخزّانات الجحيم تحتها. الأبخرة سريعة الاشتعال لا تحدّها أدنى معايير السلامة، ولا عُدّة الأعمال الحديدية ومصانع سخانات المياه التي تنفجر قبل دخولها البيوت كعُبوات منزلية. فحين تستشري الرثاثة، لا توفّر حتى السخافة التي تصبح قاتلة إلى حد أن يفقد الموت معناه. صرنا في ما هو أبعد من غياب الدولة، بل غياب رغبة الأفراد وصغار الجماعات في بذل القليل الممكن لحفظ الحياة المجرّدة. لا رغبة إلا في استغلال الأزمة لتحقيق الربح، في أسرع وقت وبالسعر الأعلى، أو خوض الأزمة نفسها بالصبر القسري لتحقيق حاجات يومٍ سرعان ما سينقضي مثل نفايات العالم الثالث: بحريقٍ سامّ.
*المدن