رافي ميناس: بيت الأحلام

0

عشرات الأشخاص المتّشحين بالفسفوري يسيرون بصمتٍ تام رغم شكلهم الكرنفالي الصارخ. يسير الموكب
الصامت في الشارع الضيّق أمام بيت أهلي في حلب. في الداخل، في غرفة المعيشة الصغيرة، يُقامُ قُدّاسٌ
حسب الطقس السرياني الأرثوذوكسي. أشخاص بلا وجوه؛ أخي الكبير يأكل المعكرونة الحمراء، وأنا أبحثُ
عن مسودّة كتبتها منذ سنوات. أبحث عنها مستعجلاً فطائرتي إلى كندا ستُقلِع بعد ساعة. لماذا أنا هنا؟ كيف
سأعود لكندا وأنا أصلاً فيها!
أستيقظ…
حُلمٌ واحد بمئات السيناريوهات الملونة بالرمادية أو الخمرية وبكادرٍ ضيّقٍ جداً. مكان واحد؛ منزل أهلي
الصغير في حلب. كل الأحداث السوريالية تحدث هناك، أو كما أسمّيها، يتم تصويرها هناك. أسأل نفسي بعد
أكثر من سبع سنوات قضيتُها بعيداً عن ذاك البيت الذي لا أعتقد بأني سأراه ثانيةً. عشرات البيوت انتقلت
إليها في قارتين بعيدتين عن بعضهما. لكن كل ليلة أعود إلى ذاك البيت، برمادية كئيبة مخيفة!
منذ سنتين تواصلت معي فنانة سوريّة رائعة تقوم بمشروع مميز حول أحلام الشباب/ت الذين خرجوا/ن من
سورية. انصدمتُ من نفسي وهي كذلك كيف أن كل الأحلام تدور في مكانٍ واحد. من وقتها، رحت أسأل
نفسي، هل خرجتُ من هناك فعلاً؛ أم مازلت هناك!
البيت… هذا الكيان الفيزيائي والروحي بأنٍ معاً. ألا يشبهُ الإنسان! الكائن الذي يتكوّن من مادة وروح حسب
الكثير من الفلاسفة والمعتقدات. لكن الإنسان قابل للحركة، بينما البيت فثابت مكانياً وفيزيائياً. بموت
الإنسان، يتجرّد من صفاته الفيزيائية والروحية. كذلك البيت، يتجرّد من هذه الصفتين بقبلة من قذيفة. بموت
الإنسان قد يتحوّل إلى شبح ويرافق المحبين أينما ذهبوا. يعبث الشبح في أشياءهم، يحرّك كرسياً ممازحاً
إياهم. كذلك البيت، له شبحٌ، طيفٌ يطفو ويهيم في الوجود بعد اندثاره. يتشبّثُ في حقائبنا، في ثيابنا، وفي
أحلامنا…

أثناء عملي مع اللاجئين في مخيمات البقاع اللبناني علماً أتي أنا أيضاً كُنتُ لاجئاً لكن مع القليل من الحظ، لذا لا أفصلُ نفسي عن تلك الجماعة ولا أستطيع القول “أثناء عملي مع اللاجئين السوريين” المهم، أثناء
عملي معهم ضمن مشروع المسرح التفاعلي، معظم الرجال، إن لم يكن كلهم، كانوا يتحدّثون عن بيوتهم
التي انمحت عن الوجود غير أن شبحها كان ملازماً لهم. كان شكل الخيمة من الداخل يحاكي بشكلٍ كبير
شكل البيت السوري القروي. البطانيات المُكدّسة في الزاوية غير أنها تجرّدت من النمر الشرس أو الزهور
والألوان؛ لتصبح رمادية باهتة؛ واستُبدِل النمر القوي بشعار مفوضية اللاجئين للأمم غير المتحدة. حتى
التلفاز كان له غطاء مزركش ناعم يغطيه أثناء نومه الطويل. الحصيرة والوسائد كلها كانت تشبه بيوتنا. هل
“دوكرة” الأماكن لتصبح تشبه بيوتنا هي بالفطرة! أم أنها جزء من ثقافتنا، أم أنها ذكرى طيبة لبيوتنا التي لم
تعد موجودة؛ فنحاول إعادة إحيائها حتى لو داخل خيمة!

اُستُبدِلت بيوتنا المتداخلة الصغيرة المتراكمة في شوارع قذرة ضيّقة؛ اُستُبدِلت بخيام مبنية فوق طين الذّل،
أو في بيوتٍ غربية جميلة في حيٍّ خالٍ في التلوث البيئي والسمعي والبصري. حيٌّ مثالي ببيوت مرتبة
بجانب بعضها البعض كأحجار الدومينو. أمام البيت شجرة صنوبر عتيقة ومساحة خضراء في الخلف.
بيوت نظيفة دافئة محمية بنظام أمني ذكي، لكنها فارغة! فارغة من الشُرفات والخبريات وفناجين القهوة عند
الصباح ومن الكوسا والبامية والفاصولياء عند الظهيرة، ومن الأركيلة وكأس الشاي في المساء. خالية من
الزيارات، خالية من الأسرار والأحاديث والمخططات الثورية، خالية من العنصر الثاني… من الروح!

*خاص بالموقع