راجي بطحيش: لا فردوس مفقوداً لدى الكاتب السوري

0

مجلة أوراق- العدد9

ملف منفى الحسرات والمسرات

عندما أطلقت في شهر آب من عام 2014 موقع “أنبوب” للكتابة الراديكالية، كان ذلك في عز جهنم حقيقية حيث الحر والحرب على غزة والمجازر اليومية والشعور بتفتت كل شيء وسط هذه النار الحقيقية والاستعارية، حيث اقتنعت وقتها أو كنت مقتنعا أصلا أن التفكيك وشد الحدود وانتهاك اللغة في النصوص الأدبية التجريبية في زمن العبث والحروب والقهر والخسارة بحاجة لإطار يبرزه، يتوجه ويضعه في مركزه متجاوزا الضوابط الأخلاقية والأدبية التي قد تواجه النصوص، وحينها توقعت أن يكون معظم كتاب الموقع ممن بدأوا معي قبلها في الكتابات الجنسانية في موقع “قديتا.نت” وبالأساس من المصريين والفلسطينيين، ولكني تفاجأت خلال أشهر أن الموقع تحول إلى بيت للنصوص السورية القادمة من دمشق المحاصرة ومن المنافي السورية التي كانت تتشكل بتسارع، فصرت وعلى مدار ثلاث سنوات وأكثر أحرر وأعيش داخل نصوص قادمة من الدياسبورا السورية الجديدة، تلك البعيدة كل البعد عما عهدناه في سنوات الثمانينات من هجرة ثقافية إلى أوروبا من بلاد الشام تتسم بنوع ما من الراحة والرفاهية النسبية، نصوص من أرصفة العواصم الأوروبية ومدنها الهامشية ونصوص من المخيمات ومحطات القطارات والهوامش عامة.

خلال ثلاث سنوات من التعامل مع نصوص المنفى السورية وأحيانا العراقية كان لا بد لي كفلسطيني أن أقارن بينها وبين أدب المنفى الفلسطيني السرمدي سواء داخل الوطن /المنفى أو خارج حدوده.

تتميز الحالة الكتابية السورية الشابة في هامش المنفى بملامح ما بعد حداثية بامتياز كونها تفتت جسم المعرفة للنص الحداثي كتتمة طبيعية وتلقائية على تفتت جسم المعرفة للدولة الوطنية العربية وفي هذه الحالة الدولة البعثية في سوريا والعراق حيث يحتمي القمع والعنف المبطن ومن بعدها المباشر ببلاغة اللغة العربية وجسدها المنضبط لدرجة النفي المعنوي لما هو غيرها.

يختلف الكاتب السوري الشاب عن مثيله الفلسطيني أو اللبناني أو المغاربي على سبيل المثال بكونه جاء أو نشأ في بلد لا تزاحم العربية فيه بحق لغات أخرى، لذا تبدو اللغة العربية المصبوبة بالنص تداعيا لنفسها وليس للغات أخرى ما يبرز بوضوح في كتابات المنفى حيث يُكتب المنفى بعربية خالصة دون وسيط ما بعد استعماري آخر أو دخيل لغوي آني عنيف كما هو الحال بالنسبة للعبرية للكاتب الفلسطيني من الداخل، أما بالنسبة للمنفى ذاته بالنسبة للكاتب السوري فهو ككل منفى عبارة عن مقاطع غير مترابطة من الحاضر والوطن والذكريات وصور لا علاقة لها بأي شيء وحالة من عدم التصديق لمادية المنفى وحقيقة وجوده أصلا، هي حالة من التحليق في فضاء صامت مفرغ. تتكرر في نصوص المنفى السورية الشابة ثيمة الرجولة المهزومة الواضحة، حيث يفترض في عالم ذكوري أفضل أن يكون الكاتب  او الشاعر الأربعيني في قمة تحققه ومساهمته في بناء وإطالة عمر دولته الوطنية القائمة على احتكار الرجال ولكنه بدلا من ذلك يجد نفسه في منتصف حياته الافتراضية يبدأ من جديد ويضطر أن يجلس على مقاعد الدراسة ليتعلم لغة بلد اللجوء كشرط للعيش فيها وذلك لدى “آنسة” قد تكون شريرة تصغره بعشرين عاما، وهي وفق إسقاطاته سفيرة منظومة استيعاب اللجوء الرأسمالية، مع تدافع النصوص والشهور تتحول مغامرة منتصف العمر هذه لدى معظم الكتاب من تجربة انهيار للدولة الرجولية/ الوطنية التي تحولت لكابوس نازف إلى حالة من ولادة الفرد والفردانية من بين الأنقاض محاولا البقاء على قيد الحياة عبر البقاء على قيد النص الذي يكتبه المكان الجديد وذلك المكان الآخذ بالابتعاد يوما بعد يوم.  تعلم الكاتب الفلسطيني عبر سنوات الشتات الداخلي والخارجي الطويلة أن الوطن هو نقيض الدولة وأن الدولة (أي دولة)هي قوة إحلالية في الوطن فيما يعتبر الإسرائيلي مثلا وخاصة ممن ولدوا بعد إنشاء الدولة بأن الدولة والوطن متطابقان وبالتالي فإذا ذهبت الدولة سينهار معها الوطن والبيت وشرط الوجود على الأرض، بناء على ذلك لا زال مفهوم “الفردوس المفقود” يطغى على الكتابات الفلسطينية وحتى أكثرها عبثية وتجريدا حيث ثمة مكان ما ينطلق منه النص ولا بد أن يعود إليه وبشتى الطرق والتقنيات الأدبية والفنية، فحتى الكاتب الفلسطيني الذي يعيش داخل “الدولة” أو ما يسمى إسرائيل يعيش في نصوصه تلك المسافة الميلانخولية بين الوطن والدولة التي سرقت الوطن، أي أنه يعيش في الوطن وضياعه المتمثل باللافتات ورموز السلطة في آن وذلك ما يبقيه على قيد الحياة أو النص… ذلك التجوال بين الوطن وسرقته وبين الدولة ونصها السفلي الخفي، وهو بذلك يتحول بشكل متواتر ومتذبذب من ذلك الكائن الذي يمثل جماعة مهزومة وسوداوية تنقب تحت كل متر مربع عن حيوات قديمة كانت تعيش بتناغم وهناء مفجع في الفردوس المفقود وبين كائن يريد مع كل ذلك أن ينجح ويحقق فردانيته وهويته المنتجة والاستهلاكية في المدينة الإسرائيلية التنويرية والتعددية، ولكن لا الفردوس المفقود كان على الأرجح فردوسا بمعناه الحرفي ولا المدينة الإسرائيلية بالتأكيد نموذجا للتنوير والتعددية.

وضمن هذا السياق يغيب الفردوس المفقود تماما عن نصوص المنفى السورية بشكل ملفت ومثير للغاية، فبينما يحن الفلسطيني إلى المجهول وإلى ما لم يره أو يتذوقه أبدا، لا يحن السوري الذي يمضي الوقت في بلدات نائية بعيدة عن العواصم المشتهاة بحكم قوانين اللجوء، إلى دمشق أو حلب أو حمص قبل 2011، قد يكون الوقت لا زال مبكرا لإنتاج الحنين، ولكن يمكنني وضمن ثنائية الدولة /الوطن أن أخمن أن اختطاف الدولة للوطن لأكثر من نصف قرن وتواطؤ الوطن وصمته على ذلك في أحيان أخرى وانتفاء صفة الفردوس عن هذا كله لبرهة أو لأزمنة طويلة.

ترك الرد

Please enter your comment!
Please enter your name here