مجلة أوراق- العدد9
أوراق القص
من الماء تبدأ الحكايات وتنتهي، منها تبدأ الأحلام وتتلاشى، أمام قطرات المطر تتأمل اللابداية واللانهاية، ترى كيف يتجلى الخالق في أصغر خلقه. في اللابداية كان مزيج الماء والتراب، ومن الماء خلق الله كل شيء حي، خلق الحياة بأروع أشكالها وألوانها. وفي تلك اللحظة التي لامست فيها قطرات الماء التراب اهتز الكون طربا مخرجا للحياة بهجات لا تنتهي.
كل حكاياتنا أيضاً بدأت من الماء والتراب فمنها كانت الجبلة الأولى وخلق الإنسان، ومن ذلك الخلق الفريد ومن ضلعه خلق الله له توأم الروح وبدأت حكايات الحب ولكنها لم تنتهي هناك. فتحت قطرات المطر تعاد صياغة حكايات الحب والعشق من جديد وبالرغم أن معظم هذه الحكايات تنتهي بالوهن والمرض والألم –ليس ذلك المرض الذي يصيب الجسد على قدر ما يصيب الأرواح – إلا أنها أيضا لن تتوقف حتى يرث الله الأرض وما عليها.
الماء خلق فريد لا يستطيع علم تعريفه، ففي الكيمياء هو عناق بين ذرات الهيدروجين والأوكسجين ولأن الاوكسجين يعشق النساء فلم يكتفي بزوجة بل كان له اثنتان، وفي الفيزياء كل المواد تتقلص بالبرودة الا هو يتمدد معلنا عصيانا عن قوانينها، وفي الدين فإن الماء هو الأصل في خلق كل حي، أما أطرف ما سمعت أن الماء هو مادة لا لون لها ولا طعم ولا رائحة. هذا السراب الغريب هو ماتراه العين ولكنه ليس الحقيقة، الماء له لون وطعم ورائحة وصوت أيضاً، هذه ما ستشعر به وتراه وتلامسه إذا نظرت مليا بعيني قلبك.
أسأل الفلاح الذي يقضي وهو ينظر الى السماء ينتظر الغيث عن طعم الماء سيخبرك، اسأل العطشى عن أعذب مشروب في الدنيا سيخبرك، أسأل من فقد حبيبا عن طعم قطرات المطر سيخبرك، سيخبرونك عن ذلك المذاق، مذاق الحياة الذي لا يوصف، ولأنه لا يوصف قالوا إن ليس له طعم، هو يا عزيزي يحوي أروع طعم ولكننا ببساطة عجزنا عن فهمه.
من قال إن ليس للماء لون، الماء ملون بكل ألوان الحياة، هو لون الانسان والحيوان والنبات. هو ألوان البشر أنظر من أين شربوا تعرف ألوانهم وطباعهم، هو ألوان الحيوانات مرسومة في فراشة مزركشة أو طائر ملون، وهو لون الزهور بألوانها التي لا تعد ولا تحصى. هو لون كل شيء في هذا الكون فمن الماء كان كل شيء بإذن الله، وفي قطرة المطر ينعكس الضوء البسيط الوحيد ليخرج بألوان الطيف جميعها.
أما صوت الماء فأعذب من أن نتجاهله، فعند سقوط المطر تسمع سمفونية جميلة صوت متلون وفقا لمكان تساقط القطرات
على الشجر تسمع صوت الناي الحزين، وعلى الأرض تسمع صوت البيانو، وعلى النوافذ تسمع ايقاع الطبول، أما المياه الجارية في الأنابيب تعطيك نغمة متقطعة عذبة للكمان. أوركسترا عظيمة تجمع الشرقي والغربي مضيئة نفوس الحيارى، ترسم الأبتسامة على الشفاه وتزرع الأمل والتفاؤل في القلوب.
أما تلك الرائحة وذلك العطر الذي لا يوصف ستحصل عليه بعيدا عن دكاكين العطارين حيث الروائح المصطنعة، ففي ذلك الموعد وتلك اللحظة التي تلتقي فيها حبات المطر مع أول ذرات التراب تتعانق مشكلة عطرا سرمديا، عطرا بديعا تلامسه وتسمع كلماته وتحس بنشوة غريبة لا تفسرها نظريات فرويد في النفس البشرية، تقف مشدوها أمام كل الحكايات والأساطير حتى تظن أن أكثرها ملفقة، تعيد قراءة التاريخ من جديد تسقط كل النظريات وتبقى الحقيقة، الحقيقة العظيمة التي تجعلك تقف متسائلاً: كيف يمكن لقطرة ماء صغيرة وذرة تراب واهية أن تحكي كل هذه الحكايا؟ حقا إن الله على كل شي قدير