ريما حمود
كاتبة رواية وقصة قصيرة من الأردن، نشرت خمسة إصدارات بين رواية ومجموعة قصصية.
أوراق- العدد10
أوراق السرد
أمام النافذة أظلّ، لأراقب ما تسمح به الستائر، كل منّا تطل على الأخرى، هي تسمح لي ببعض النهار وكل الليل، وأنا أقدّر لها ذلك بابتسامة عريضة.
كان يصحو تمام الساعة السادسة يوميا، يجلس بيني وبين النافذة، وجهه لي وظهره لها، يرشف قهوة الصباح وهو يقرأ في كتاب ما، ثم يلملم أوراقه الكثيرة التي سهر على الخربشة فيها باللون الأحمر يضعها في حقيبته … يقترب مني، يطبع قبلة على وجنتي، يلمس الأخرى يهمس باسما:
– سلام يامو.
لا يعود إلا بعد الظهر بدفاتر كثيرة تحتل الطاولة الصغيرة، ينام دون أن يأكل شيئا، يصحو على طرق الباب، تمد له أخته صينية الطعام … يضعها فوق دفاتره، يلوك اللقمة في فمه طويلا.
ينسى أنه يأكل وعيناه عالقتان في صفحة من كتاب جديد، وبعد أن تمر ساعة كاملة على بدء وجبته يقول لي:
– أبتسم، أحاول أن أفرد ابتسامتي أكثر، لكن المرآة كانت بعيدة لأتأكد من نجاحي في ذلك.
منذ سنوات لا أذكر عددها، صار بين حين وآخر – خاصة في تلك الأيام المجنونة – يجلس أمامي تحت النافذة تماما، ظهره لي ووجهه لها، أو يترك لي جانباً والجانب الآخر لخشبها القديم، يرفع رأسه كلّ دقيقتين، يزحف على الأرض محاولاً ألا تكشف الستائر الخفيفة ظله للخارج.
حين يهدأ القصف أو يختفي القنّاص، يعود لكرسيّه تاركاً للنافذة ظهره.
في الأيام الأخيرة من هذه السنة كانت دفاتره تقل، لم أر في يده القلم الأحمر، صار يغرق كل الورق بالأزرق، أو يتركها لأسابيع ويختفي، وحين يعود يقف أمامي بوجهه النحيل و شعره الأشعث:
– شلونك يامو؟
يلمس وجنتي … طرف شالي … يبتسم، فأشعر بالدمع يجري على وجهي، أبتسم أكثر فأفشل.
بعد كل غياب يحبس أنفاسه أمامي، يتأمل صمتي بوجه جامد بارد، يتقلّب طوال الليل مبحلقا في بقعة ضوء قمرية اختارت السقف سريرا، يغمض عينيه لساعة واحدة تبدأ بعد أن تزعق ساعة الحائط وتنتهي في زعيقها التالي تماما … لينتفض قائما من فراشه، يحبس أنفاسه مرة أخرى، يزحف على الأرض ويختبئ.
صار يدخن، غضبت، حينها أدار ظهره لي، رأيت الدخان سحابة فوق رأسه، فتح النافذة، اقتحم الهواء البارد الغرفة، مدّ جسده للخارج، ارتجفتُ نفث دخانه بعنف، صاح:
– يلعن أبوكم كلكم.
أكمل سيجارته بصق في الشارع وعاد إلى كرسيه، مد قدميه فوق كومة كتب قديمة، عاد برأسه للوراء ونام جالسا، ابتسمتُ، لم أكن قادرة إلا على ذلك … أحاول ضم شفتي فتصيران أوسع، أجرّب أن أنطق فيجرحني الزجاج فوقهما.
قبل ثلاثة أيام تماما اقتحم الغرفة، سحب عن ظهر الخزانة حقيبة سوداء فتحها، دسّ فيها كل ما استطاع من ملابس، غسل وجهه سريعا، وقف أمامي لدقائق، مسح بطرف كمّه دمعة صامتة، همس:
– قبلني مرتين في جبيني وخرج.
منذ ثلاثة أيام كانت النافذة هنا، الحائط بجانبي الأيمن، الباب على يساري، الشارع تحت النافذة.
منذ ثلاثة أيام مرّ مقاتلون تحتي، تأرجحت في إطاري الأسود، اهتز الحائط خلفي، ارتخى المسمار الذي يحملني وحين وقف مقاتل تحتي تماما يرفع علامة النصر بأصابعه السوداء لآخر يصوره قفزت فوق رأسه فصاح متألما … تفتت الإطار حولي فهربت إليه.
* يامو : أمي باللهجة الحلبية
*****

حرية
وجهه في كل مكان: نراه مبتسما، لامعا، وكفه فوق رأسه، فوقنا جميعا.
أفتح الصفحة الأولى من أي كتاب: يبتسم لي.
أقفله، أرفع رأسي للسبورة أمامي، يجلس فوقها وكفه المرفوعة تكاد تلامس السقف.
أسحب دفتري من الدرج، فيطالعني بأسنانه اللامعة.
في طابور الصباح أرتجف بردا، أنفث في الهواء غيوما ساخنة، أفرك كفيّ ببعضهما ، تنهرني المعلمة فأفرد ظهري وأضع يديّ جانبا ، أرفع رأسي للأعلى فيطلّ عليّ من وراء العلم كبيرا مفترشا واجهة المدرسة يحرم بامتداد صورته أربع نوافذ من الشمس، أحرك شفتيّ فلا تكتشف المعلمة أنني لا أحفظ النشيد .
أعود للدار ماشيةً، صوره تتدلى من كل النوافذ والشرفات، معلقة بين البنايات تحجب السماء فوقها، متشبثة بأعمدة الكهرباء، وأغنية واحدة تتكرر عشرات المرات في طريقي.
عاش… عاش… عاش.
أفتح الباب الحديدي الصدئ، يزعق حين أقفله، أجد أبي جالساً فوق كرسيه المتحرك أمام التلفاز يراقبه وهو يلوّح بكفه ذاتها في وجوهنا، أجلس عند قدميه، أراقب وجهه وندبته القديمة جامداً بارداً وفمه مشرع على الفراغ.
ألمس يده، أهمس:
– مساء الخير أبي.
عيناه تدوران في محجريهما وراء تلك الكفّ المجنونة، تتوقفان حين يعود بها إلى المنصة أمامه.
فوق التلفاز صورة له وبجانبه ابنه، أهرب منها إلى غرفتي، أفاجأ به فوق مرآة خزانتي، أقتلعها، تصرخ أختي:
– يا حمقاء دعيها.
أتجاهلها.
أعود لأبي الذاهل أمام صخب ذات الأغنية التي تضج بها الشوارع.
أشعر بالدوار.
تأمرنا أمي:
–غدا الانتخابات … سنذهب جميعا للتصويت.
–وأبي؟
–نعم … سنأخذه معنا.
يهتزّ في كرسيه، يطلق أصواتاً مبهمة، عيناه تدوران في الغرفة تتجنبان صورته، يصرخ بأصوات مبهمة غاضبا، يهزّ رأسه رافضا، ينقلب كرسيه به جانبا، نركض إليه، نرفعه، أقبل يديه:
-أرجوك … أهدأ.
تصرخ به أمي بعينين داميتين:
–ستذهب.
تسحبها أختي للغرفة، يرتفع صوت جدالهما، يظل أبي يهز رأسه يمينا وشمالا، يحاول رفع أصبعه رافضا ما تحاول أمي فرضه عليه.
أعيد قدميه إلى مكانهما، أغطيه، أمسح عن جبينه العرق واللعاب الذي سال على رقبته.
يراقبني بعينين تحترق دمعتان فيهما، أهمس في أذنه:
–لن تذهب … أعدك.
يفرد شفتيه بظل ابتسامة.
أبتسم له:
–أعرف … عفوا.
قبل أن تصحو أمي، أخي الذي عاد البارحة من العسكرية، وأختي التي اشترت قميصا تتوسطه صورته وعلماً كبيراً … تسللت إلى فراش أبي في الصالة، أيقظته، فتح عينيه مذعوراً كعادته كل صباح منذ أن خرج من المعتقل، وضعته في كرسيه، ألبسته المعطف الكبير وطاقية الصوف، لففت حول رقبته شالاً صوفياً، ارتديت معطفي وخرجت به.
كانت بقايا الفجر في السماء، الشمس تحاول العودة ولكن صوره التي امتلأت بها الدنيا تعيقها.
الشارع هادئ، انطفأت مصابيحه، أسرع أكثر دافعة كرسيه أمامي، أسابق الضجة وسيارات الشرطة، ووجوه الكسالى التي سيدفعها الخوف للخروج.
أهمس في أذنه:
– سنختبئ حتى صباح الغد … ستقفل الصناديق في منتصف الليل.
يغمض عينيه عن الصور واللافتات، يتنفس بصعوبة، أدفعه أمامي مجتازة به شارعاً تلو شارع حتى نصل إلى البيت المهجور المطلّ على حقول الذرة البيضاء في طرف القرية، والذي كنا نختبئ فيه من كلاب الشوارع الشاردة التي تطاردنا صباحا في طريقنا للمدرسة القريبة منه، أراقب الشارع قبل أن أصله، أتأكد من خلوه، أخفف من سرعتي محاولة الابتعاد عن وسط الشارع وعن حصى الرصيف فلا ألفت انتباه أحد إلينا، ألتف من وراء البيت المحوّط ببقايا سور متهالك، أدفع الكرسي أمامي من ناحيته المتهدمة، أتسلل بأبي إلى البيت من باب خلفي لشرفة مفتوحة على الحديقة الجرداء وراءه . أفتح الباب، أهمس في أذنه:
–وصلنا … لن يعرف أحد أننا هنا.
يفتح عينيه على العتمة التي يكسرها ضوء الصباح الذي بالكاد يعبرمن زجاج النوافذ المغبرة ليشكل بقعة ضئيلة لا تنجح في غلبة العتمة بعد.
أختار زاوية، أدفعه إليها، أجلس بجانبه على البلاط القذر، أخرج من حقيبتي دواءه وزجاجة ماء، أسقيه، يميل برأسه على كتفه ليكمل نومه، تنفجر عطسة في الغرفة ليست لنا، أرتعد، أفتح النافذة القريبة، يقتحم الضوء الغرفة ليسقط على وجوه كثيرة لا أعرفها تنزوي في الزوايا الأخرى للغرفة.
*****

قوارب
قالت لي وهي في الخامسة من عمرها: أريد أن أتعلم السباحة.
نهرتها: عندما نذهب إلى البحر صيفا سيعلمك أبوك.
وعلى شاطئ الاسكندرية … شدتني من ذراعي… طأطأتُ … همست في أذني: لكنني لا أعرف السباحة!
تجاهلت تلك الفكرة التي ألحت عليّ حين أخرجت من حقيبة يدي 6000 دولار ليخبئها في جيب سترته الداخلي ثم يغلق السحاب حتى رقبته ويغيب لثلاث ساعات.
– إنها لا تعرف السباحة!
همست في أذنه في الليلة السابقة:
– إنها خائفة … لا تعرف السباحة.
تمتم:
– سأشتري لها سترة نجاة.
ألبستها السترة، قبل أن نحشر في القارب الخشبي القديم، طوَّقَها بذراعه الأيسر… التصقتُ به … التصق بي شاب مذعور ظل يتقيأ طوال الرحلة… وبها التصق رجل في منتصف العمر نصف وجهه مكرمش معجون الملامح ذراعه المشوهة تزاحم ذراعها فتعلقت بأبيها أكثر.
أقدام ثلاثتنا مطوية تحاشرها أكتاف الآخرين… الموج يتلاعب بنا… يرفعنا فجأة فنشهق… يقذفنا فنكتم صرخة مباغتة… أحدهم يشتم زوجته التي لم تتوقف عن الولولة منذ تركنا الشاطئ …نتشبث بحواف القارب الذي ينزّ ماء تشربه ملابسنا الخفيفة… الهواء المعتم حولنا يصير أبرد كلما ابتعدنا… أهمس في أذنه:
ستمرض … الهواء بارد وملابسها مبللة.
يتجاهلني.
أمد يدي إلى خاصرتي لأتأكد أن أوراقنا الثبوتية، ما تبقى من المال، وصورة عائلية لنا في صالة بيتنا قبل أربع سنوات مغلفة بالنايلون لخمس مرات ما زالت في مكانها.
أسمع صوتا خافتا يتلو القرآن… أهمس في أذنه:
ليتني أحفظ سورة البقرة –
أغمض عيني على ذات العتمة…أحاول أن أستعيد وجه خالتي التي كانت تقرؤها كل يوم بعد صلاة الفجر … فيعود إليّ داميا … مغبرا… مسحوقا.
أهمس مرة أخرى:
– لو أنني كنت في البيت ذلك اليوم لأراحني ذلك البرميل المجنون من هذا الشقاء.
يسحب يده من حولي:
اصمتي
لا أرى وجهه ولكنني أشم رائحته فأدسّ وجهي في ذراعه أكثر… أسمعه يهمس في أذنها مطمئنا… ترتخي كفه عن كفي فأفزع، أشدّ جسدي إليه أكثر.
تمتد العتمة بنا أكثر …تصير السماء القاتمة والبحر جسدا واحدا… يلتصق الجميع ببعضهم البعض أكثر حين يصير الموج أعنف … يعلو نواح النساء …أكتم حاجتي الملحة في النحيب فيصير أنينا مكبوتا… تنفلت الدموع من عيني فأحمد الله أن الظلام يخفيها عنه … يفضحني صدري الذي يعلو ويهبط … يمد يده يتحسس وجهي، يكتشف الدمع، يمسحه بطرف كمه يشدّ رأسي إليه فأسمع لهاث صدره.
أربع ساعات في عرض البحر، يخرج أحد المهربين مصباح يد، يلوح به في الهواء خمس مرات … نرى خيال قارب صيد كبير يقترب، يقف بعضنا في مكانه … ينهرهم المهربون… قبل أن نصل إليه يئن خشب القارب تحتنا… تبدأ أضلاعه في التفتق …تقلبه موجة فتنثرنا… أتخبط في الماء … أبحث عنهما… أناديه…يرتطم جسدي بخشبة ما أتمسك بها… أسمعه يخبرها أن تهدأ يقسم لها أنه سيجدها… أصرخ به:
إنها لا تعرف السباحة!
أحرك ذراعي الحرة في الماء أحاول الوصول إلى مصدر الصوت … العويل والصرخات تشق الهواء: يا الله؛ الصغار يستنجدون بآبائهم … ضربات أجسادهم عمياء في الماء الغادر، البحر يضربنا… يبتلعنا.
… أحرك ذراعي … قدمي … أناديهما…ترفعني موجة… أشهق… تقذفني فتفلت الخشبة من تحت ذراعي … أتذكر فجأة أنني لا أعرف السباحة!
*****

حيطان
كنت أخطف القلم من يد أحمد دائما؛ ثم أخزه به في ظاهر كفه، لأسحب ورقته منه وأنقل ما فيها لورقتي، أظنني لم أكن أملك الرغبة في شيء سوى العبث، بما أن ذلك القبر الذي يسمى بيتاً لم يتسع لشهوة اللعب التي تفقدني وإخوتي القدرة على التزام الصمت حين كان أبي يغفو على الفراش المقابل للتلفاز، لتظهر فجأة أمي بيننا ترفع ملعقة الخشب الطويلة فوق رؤوسنا، عاقدة الحاجبين تهمس:
– أقسم أنني سأضربكم بهذه … دعوه يرتاح.
ثم تختفي كما ظهرت ليستمر صوت الماء وقرقعة القدور حاضرا يضبط الأمن بيننا حتى يصحو أبي … فنظل صامتين حينها خوفا من أن تعلو أصواتنا على ثرثرة مذيع نشرة أخبار الثامنة.
– وجهك للحائط.
يصرخ بي المعلم الغاضب للمرة الأولى في هذا الفصل بعد أن ارتفع بكاء أحمد.
– وجهك للحائط ويديك للأعلى.
يعلو صراخه وتحلق يداه في الهواء بعد أن دفعت الأحمق بجانبي هو وكرسيه إلى الأرض.
– وجهك للحائط ويديك للأعلى وأرفع قدمك اليسرى.
يقولها وهو يسحبني من ياقة قميصي إلى الحائط في آخر الفصل، بعد أن ضربت صبيا شتم أبي.
وجهي محشور في زاوية المكان، التي تتسلقها دوائر العفن الأخضر فتظل رائحة رطوبة الشتاء فيه تخنقني، يداي معلقتان في الأعلى أنزلهما كلما سمعت زعيق طبشورته على السبورة، قدمي المرفوعة متكئة على الحائط، أسمع أحدهم يقول لآخر:
– صرصار.
لتتدحرج إلي ضحكاتهم الخافتة، أقسم أن أنتقم منه، و أنسى حالما يخرج المعلم من الباب.
وجهي للحائط دائما، ذات الحائط الذي تقول أمي أننا يجب أن (نمشي الحيط الحيط و نقول يا رب الستر)، أراه مقشراً قبل أن أغمض عيني في صالة بيتنا التي لا تتسع لنا، خشناً في الزقاق الضيق الموحل الذي تنحشر فيه عائلتنا، وعائلات أخرى، قاسياً جافاً يواجه مكتبي في غرفة ضيقة بلا نافذة، بارداً لم أعلق عليه صورة زفافي على ليلى التي تزوجت أحمد، ضيقاً فقررت أنني سأتركه لمن ظل من إخوتي في البيت والحارة، لاتخذ خيمة بلا حيطان في بلد قد تكون الحيطان فيها أنعم من كفيّ أمي.