حسام الدين محمد:Hagia Sofia.. الحدود الدينية المتخيلة بين البشر!

0

قامت تركيا مؤخرا بتحويل المعلم التاريخي الشهير بـ”أيا صوفيا” – أو إعادتها- مسجدا، بعد أن كانت الكنيسة الرئيسية للمسيحية الرومانية الشرقية، حتى 29 أيار/مايو 1453، يوم دخول جيوش العثمانيين إلى مدينة القسطنطينية وصلاة السلطان محمد الثاني فيه، حتى أمر مصطفى كمال “أتاتورك”، بتحويل الجامع إلى متحف عام 1935.
أدى القرار القضائي (والسياسي عمليا) إلى موجة كبيرة من التداعيات الكبيرة، المحمولة على جوانب سياسية ودينية وتاريخية، فالقرار محمل بالضرورة برمزيات صارخة تستعيد قرابة 15 قرنا من الصراع بين العالمين الإسلامي والمسيحي، المتراكبة مع الصراع الحديث نسبيا، الذي أدى إلى تفتت الإمبراطورية العثمانية، والذي اتجه، مع نهاية الحرب العالمية الأولى، إلى قرب تفكيك الحدود الجغرافية المعروفة حاليا لتركيا نفسها وتقاسمها بين الحلفاء.
كان مصير إسطنبول نفسها، حسب اتفاقات “سايكس بيكو”، سيؤول إلى روسيا، لكن نجاح الثورة البلشفية عام 1917، غيّر ديناميات القضاء على “رجل أوروبا المريض”، وأدى إلى اجتياح يوناني مدعوم غربيا لتركيا، ولكن الجيوش التركية، بقيادة أتاتورك المفتش العام للجيوش الذي تحول إلى قائد عرفي عام، تمكنت لاحقا من رد الهجوم، الذي وصل إلى أنقرة، وجرت قبل وبعد ذلك عمليات تطهير عرقية من الجانبين.
يبدو الصراع التركي ـ اليوناني وجوديا، فهو يمثل أمتين محملتين بأعباء تاريخين طويلين، يحتوي كل منهما، بالضرورة، على تداخل كبير، لا يقتصر على التنازع، الحديث نسبيا، بل يمكن أن يعود إلى بدء نشوء الحضارة والعمران البشريين، ولعل أيا صوفيا، هي تلخيص للصراع على إسطنبول نفسها، أو بالأحرى فإن إسطنبول هي تلخيص للصراع، من جهة، وللتداخل العميق، من جهة أخرى.
من المثير بداية، أن لإسطنبول أسماء كثيرة، فاسمها الأول هو بيزنطيون وجذر الكلمة يعود إلى الكلمة الهندو – أوروبية bhugo (الغزال)، ويمكن ربطه مع جذر Buz من اللهجة المحلية التراقية القديمة، الذي يحيل إلى المياه والنوافير، أما اسمها اللاحق، كونستانتينوبل فيعود للقيصر الروماني قسطنطين، الذي أعاد تأسيس المدينة عام 324، مبتدئا بذلك حضارة ستسمى لاحقا (في القرن السادس عشر) ببيزنطة، وفي حين كان يشار إلى المدينة باعتبارها روما الجديدة منذ 330، فيما كان العرب والفرس يسمون أصحابها بالروم، ومنذ القرن العاشر كان الإغريق يسمونها استينبول أو استانبول، وبعد الفتح العثماني صار هناك ميل لاستخدام أسماء تتراوح بين استانبولين، ستامبول وإسلامبول.

الاحتلال اللاتيني والشق الأرثوذكسي الكاثوليكي

اجتاح الصليبيون المدينة عام 1204 ونهبوا ودمروا أجزاء منها، وهو ما سماه البيزنطيون باسم “الاحتلال اللاتيني”، حيث توج بالدوين الأول امبراطورا في آيا صوفيا، التي تم تحويلها من كنيسة أرثوذكسية إلى كاثوليكية، واعتبر تاريخ الهجوم المسيحي على أكبر مدينة مسيحية في العالم آنذاك حدثا غير مسبوق، وأدى إلى قطيعة كبرى بين الكنيستين الأرثوذكسية والكاثوليكية. سمى الفاتحون الصليبيون سكان المدينة غريكو، أما سكانها الإغريق فكانوا يسمون أنفسهم رومانيين، وما زال الأتراك يستخدمون هذا الاسم لوصفهم، أما اسم القسطنطينية نفسه، فلم يتوقف العثمانيون عن استخدامه إلى أن تم التخلي رسميا عن هذه الظاهرة القديمة لتعدد الأسماء لصالح اسم واحد: إسطنبول، مع ظهور قانون الخدمات البريدية عام 1930 التزاما من الدولة التركية العلمانية الحديثة، على ما اعتقد، بنزعة الحداثة الأوروبية النابليونية.
اشتغل الباحث العراقي علي الشوك، بطريقة علمية رفيعة، على استكشاف العلاقات بين ما يسمى اللغات السامية ـ الحامية واللغات الهندية الأوروبية، وفي سعيه لكشف الجذور المشتركة، كشف أيضا ظاهرة تخترق كل هذه اللغات، وهي الاستعارة من بعضها بعضا، ففي حين أن اسم الشيطان من أصل سام (شط عن الحق)، فإن إبليس من أصل إغريقي Diaballein (يفتري)، وحين احتاج الإغريق لكلمة تعني القراءة استخدموا Biblion الفينيقية الدالة على الورق، أو الخطاب، ثم قُرّ معناها في اللغات اللاتينية على كتاب. وفي حفره ضمن الأساطير الإغريقية التقط الشوك كيف قام الإغريق بخلطة مثيرة، تبدأ من الملك بيلوس، أخو أجينور، الذي هو حسب روبرت غريفز، بطل فينيقي ورد ذكره في التوراة باسم كنعان، وابن ليبيا من بوسيدون، الذي أنجبت له زوجته توأمين: أيجيبتوس ودانوس، أنجب الأول خمسين ولدا من أمهات مختلفات، انحدر منهم الليبيون والعرب والفينيقيون، وأنجب الثاني خمسين بنتا هرب بهن إلى اليونان، وكان البيلاسغيون السابقون على اليونان يعتبرون أنفسهم أبناء دانوس، وكذلك الآخيون الذين كانوا أول القبائل التي دخلت اليونان بحدود 1900 ق.م.
الأكثر إثارة من ذلك، أن “كتاب الغزوات” وهو سفر أيرلندي ينطوي على معلومات آثارية على جانب من الأهمية، ذكر أن شعب تواثا دي دانان اضطروا إلى النزوح شمالا من اليونان، على أثر اجتياح جاء من سوريا، ثم وصلوا أيرلندا عن طريق الدنمارك، التي اطلقوا عليها اسمهم (مملكة الدانيين) وبالتالي فإن اسمها يرجع الى أصول سامية (مادة دان) وأقاموا أيضا في شمال بريطانيا منذ عام 1472 ق. م، ولعل الاحتلال السوري لليونان، الذي أجبر الدانيين على النزوح إلى الشمال، هو ما ألمح اليه هيرودوتس في الفصل الأول من كتابه التاريخ، ولم يحدد هيرودوتس تاريخا لهذا الحدث، غير قوله إنه حصل قبل نزوح أوروبا من فينيقيا إلى كريت، وهي كناية عن هجرة قبلية، ربما تمت قبل ذلك بعدة قرون، وتظهر الدانيات في تاريخ بريطانيا المبكر أيضا، ففي كتاب “بريطانيا القديمة” لجون ميلتون، إشارة إلى أسطورة أن بريطانيا أخذت اسمها القديم ألبيون Albion من ألبينا Albina الإلهة البيضاء أقدم النساء الدانيات.

الصوفي جد الفيلسوف أم حفيده؟

مستندا إلى فكرة العالم الألماني ليبنتز، الذي يعتبر أن تاريخ اللغة هو وسيلة مباشرة للتثبت من منشأ الشعوب، وضمن سياق توسيع الحدود التاريخية والإنسانية المتنازع عليها، أن أشير إلى فكرة تحتاج تمحيصا وتدقيقا، لكن طرحها للنقاش العام يمكن أن يفيد، وتستند إلى أن الفيلسوف الإغريقي الأول طاليس، كان، كما تذكر أغلب المصادر، ابن تاجرين فينيقيين، ولد عام 640 قبل الميلاد وعاش في مدينة أيونبيا (غرب تركيا الحالية)، ودرس في مصر والشرق الأدنى واعتبر أول من أدخل علم الهندسة من مصر إلى اليونان القديمة، وكذلك فيثاغورث، الذي ولد عام 580 (أو 570) قبل الميلاد (أي بعد 50 أو 60 سنة من طاليس)، وقام أيضا بأسفار دراسة على مصر وكريت وفارس وغاليا (فرنسا).
في محاولة للاستعانة بمعارف الزميل الكاتب والإعلامي محمود الزيبق اللغوية حول الموضوع أشار إلى أن الإغريق قالوا إن معنى اسم طاليس هو “الرطب”، وهذا يحيل إلى كلمة طل (الرطب مع رائحة طيبة)، وحين طرحت فكرة أن فيثاغورث جاء بكلمة صوفي، التي صارت جزءا من كلمة فيلوصوفيا (محب الحكمة) التي أصبحت علما لكلمة الفلسفة philosophy العالمية، من مصر والعراق، وهذا يحيلنا أيضا إلى لغز آخر متعلق بكلمة “صوفي” العربية، التي حار العرب والمسلمون في أصلها، وقال الزميل إنه ما دام معجم أكسفورد يقول إن أصل كلمة صوفي المرتبطة بفيلو اليونانية غير معروف، فعلينا أن نتساءل من أين جاءت، ويقول إن كلمة موجودة في لغات المنطقة جميعها، وهي الصفاء، والصفا (الحجر الصافي والصخر)، وكانت شائعة بشكل كبير في الآرامية كيفا، وبالعبرية كيفيم، وهناك نصوص في العهد القديم يشبه فيها الإله بالصخر، فهل هو تشبيه بالنقاء أم بالقوة، وقد دخلت الكلمة إلى اللاتينية عبر كلمة سيفاس، التي هي الصفاء، فبطرس قيل إن المسيح سماه بـ”كيفا”، وسماه اليونانيون باتروس، التسمية اليونانية للحجرة الصفا، مضيفا هل يمكن ان تكون سابوت، بالهيروغليفية الحكمة، ساي بالأكدية الحكمة، هل يمكن أن تكون سوبو المشرق بالأكدية، وسوبو الصلاة بالأكدية والبابلية؟
لا يقصد من تأكيد جذور كلمة صوفي الشرقية الدخول في نزاع جديد، بل لتأكيد الطابع الاستمراري للحضارات البشرية (في مقابلة النزعة الانفصالية التي تمثلها المركزية الأوروبية، أو مرض الاستعلاء الشرقي الذي هو عقدة نقص مضخمة)، وعلى الأغلب أن من يقومون في تركيا أو اليونان بفحص جيناتهم سيكتشفون قواسم مشتركة أكثر مما يتخيلون.
يحتاج الباحث أيضا أن يفتش عن جذور كلمات إغريقية مهمة مثل Logos الكلمة، وعلاقتها بالكلمة العربية المشتقة لغة، وكذلك البحث في سبب أن لفظ القديسة صوفيا Hagia Sofia يشبه أيضا كلمة الحاجة صوفية العربية.

*القدس العربي

ترك الرد

Please enter your comment!
Please enter your name here