شهدت أثر «القوة الناعمة» للإمارات بشكل شخصي ومباشر مرّتين، الأولى حين زرت النسخة الثامنة من «دبي آرت» في آذار/مارس من عام 2014 بدعوة من اللجنة المنظمة، والثانية حين تواصل الشاعر الراحل حبيب الصايغ مع المكتب التنفيذي لرابطة الكتاب السوريين، الذي كنت عضوا فيه، لدعوتنا لتقديم طلب للانضمام إلى الاتحاد العام للأدباء والكتاب العرب، الذي كان يرأسه.
بعد زيارة مدينة التجارة والسياحة الشهيرة، التي قرّرت أن تصبح مركزا فاعلا في تجارة الفن وعرضه، كتبت مادة بعنوان «آرت دبي: واحة في صحراء؟ أم ثقافة عميقة تخترق الواقع؟». أشرت في المقالة إلى تزامن إحدى تظاهراتها (التي نظمتها مجموعة تسمي نفسها «سلاف وتتار») مع أحداث أوكرانيا الدموية التي كانت جارية، وتحدثت مع مديرة «آسيا آرت +» في كازاخستان، التي وصفت الاختلافات بين فناني المنطقة الشاسعة التي يغطيها المعرض (من شرق برلين حتى غرب جدار الصين) بالقول: «نحن مختلفون بشكل وحشي»، وستكون لهذه الجملة، حين أتذكرها الآن، معان أعمق من السياق الذي وردت فيه بكثير.
كان من لفتات التظاهرة تلك، ندوة خاصة مزامنة لـ»منتدى الفن العالمي» في العاصمة القطرية، الدوحة، بالشراكة مع «هيئة متاحف قطر»، وهي إلماحة بدت محاولة من التظاهرة الفنية لـ»تجاوز التوترات السياسية»، المعلومة بين أبو ظبي والدوحة، وهو اجتهاد فني يشبه المجاز الغريب، الذي تحاول التظاهرة أن تصوّره: الفن والتجارة فوق السياسة أم يمشي في ركابهما؟
أدباء في خدمة أنظمة الموت
لم يلبث هذا المجاز كثيرا حتى يُمتحن بطريقة «وحشية»، شهدتها خلال المعرض كانت إزالة لوحتين لفنانين مصريين كانت فيهما إشارات لثورة يناير/كانون الثاني 2011، ولآلة القمع المصرية، وقد جرت الإزالة بعد الافتتاح الرسمي بقليل، إثر دخول أحد الأمراء الإماراتيين لافتتاح الفعالية، وهو ما يعني أن الأمير، أو أحد مستشاريه، كان يمتلك ذائقة فنية تعتبر السياسة أعلى شأنا من التجارة والفن (وأعلى طبعا من مصداقية المعرض والقائمين عليه)، ولذلك أمر بإزالة اللوحتين بسبب الدلالات السياسية الواضحة فيهما، في ضربة لما يفترض أن يعنيه المعرض، وفي تجاهل للقالب الليبرالي العام الذي كانت دبي (والإمارات) تحاول إضفاءه على التظاهرة الفنية ـ التجارية الكبيرة.
في الحادثة الثانية، تواصل معنا حبيب الصايغ، رئيس مجلس إدارة اتحاد كتاب وأدباء الإمارات، عبر صديق مشترك، وألمح إلى إمكانية قبول رابطة الكتاب السوريين ضمن الاتحاد العام للكتاب والأدباء العرب، الذي كان سيعقد مؤتمره العام في أبو ظبي عام 2013 بعد إلغاء عقده في العاصمة العراقية بغداد بسبب الظروف الأمنية. اعتقدنا حينها أن هذه الموافقة الموعودة، لو حصلت، كانت ستؤدي إلى خروج اتحاد الكتاب العرب (التسمية التاريخية لاتحاد الكتاب السوريين) من الاتحاد العام للكتاب والأدباء العرب، وهو أمر سيعني الكثير في الحسابات الثقافية والسياسية السورية والعربية.
تحمّسنا فعلا لهذه الخطوة ،فأرسلنا رسالة إلى الصايغ وأعضاء مجلس إدارة كتاب وأدباء الإمارات نشكره على مواقف سابقة له في مجال نصرة الشعب السوري، وقدّمنا ملفا مساندا للطلب شارحين فيه تاريخ الرابطة منذ تأسيسها في 1/1/2012، مرورا باجتماع أمانتها العامة المنتخبة في القاهرة في أيلول/سبتمبر 2012، وقدمنا أسماء مئات الكتاب السوريين المنضمين إليها، والفعاليات التي تشرف عليها، وطالبنا بموافقته على تمثيل الرابطة للكتاب السوريين في المؤتمر المزمع عقده، كما كتب رئيس الرابطة الراحل صادق جلال العظم، رسالة طالب فيها الاتحاد العام بضم رابطة الكتاب السوريين إليه، أشار فيها إلى أن الرابطة «كانت أول جسم ديمقراطي سوري ذي طابع فكري ومهني». قمنا أيضا بإرسال رسائل رسميّة إلى رؤساء اتحادات وروابط الكتاب العربية تضم حيثيات الملف، وتطالب بدعم هذه الاتحادات والروابط، لدخول رابطة الكتاب السوريين، وبطرد اتحاد كتاب النظام السوري.
إضافة إلى شرح حيثيات ضرورة تمثيل رابطة الكتاب السوريين لسوريا في منظمة عربية للكتاب والأدباء، فقد نشرنا أيضا الأسباب الموجبة لرفض اتحاد كتاب النظام السوري، فالمنظمة المذكورة، المؤسسة عام 1969، للدفاع عن الكتاب وضمان حقوقهم، ضمت شخصيات مثل رفعت الأسد، المتهم بمجازر حماه، والمحكوم بقضايا فساد مهولة في المحاكم الفرنسية، إضافة إلى ضمها «أكثر من مئة ضابط من الجيش والشرطة والمخابرات»، وأشرنا إلى انسحاب كثيرين من المنظمة إثر المقتلة الرهيبة التي تعرض لها الشعب السوري، وإلى قتل النظام لثلاثة من أعضاء هذه المنظمة، وهم إبراهيم خريط ومحمد رشيد الرويلي ومحمد وليد المصري.
بعد هذا الجهد لم تصلنا أي رسالة رسمية لا من الصايغ، ولا من مكتب إدارة اتحاد الكتاب والأدباء الإماراتيين، ولا من أي من الاتحادات والروابط العربية، ثم فوجئنا بمؤتمر الاتحاد العام للأدباء والكتاب العرب ينعقد في أبو ظبي، بحضور 13 وفدا، وتبيّن لنا بعد كل هذه الهمروجة العظيمة أن رئيس الاتحاد الشاعر الراحل حبيب الصايغ، استخدم رابطة الكتاب السوريين استخداما بائسا في لعبة شد أذن لنضال الصالح، رئيس اتحاد كتاب النظام السوري آنذاك، الذي وجه بضعة انتقادات للصايغ.
الأسوأ والأكثر «وحشية»، كانت قيادة الصايغ لوفود من الأدباء والكتاب تمثل 15 دولة عربية، في بداية عام 2018، للحج إلى دمشق، وعقد مؤتمر لهم في ضيافة نظام البراميل المتفجرة والإبادة الكيميائية، وكانت تلك، في الحقيقة، نقطة هائلة في مفارقات «القوة الناعمة» الإماراتية، وسلاسة قيادتها لـ»الأدباء والكتاب» العرب.
الصوفي أم الخيميائي؟
يستشهد موقع إماراتي رسمي، بالتقرير العالمي لمؤشر القوة الناعمة 2020 الذي تعده مؤسسة «براند فايننس»، والذي يعتبر الإمارات الأولى عربيا في مؤشر القوة الناعمة، وهناك مؤسسة إماراتية تدعى «مجلس القوة الناعمة» أطلق عام 2017 استراتيجية من أهدافها «تطوير شبكات دولية فاعلة مع الأفراد والمؤسسات حول العالم، بما يخدم أهداف الدولة ومصالحها»، والواضح أن أبو ظبي تأخذ هذه المسألة إلى أقصاها، عبر تواجدها في أسواق السياحة والفن (التظاهرات الفنية الكبرى) والأدب (جوائز بوكر والعويس والإمارات والشيخ زايد) والأكاديمية (حيث تقوم بتمويل أقسام دراسات الشرق الأوسط في الجامعات الأمريكية والأوروبية) والرياضة (مانشستر سيتي وستاد الإمارات لفريق أرسنال).
على عكس امتحان عناصر «القوة الصلبة» التي يمثلها ضباط وأفراد القوى العسكرية والأمنية والتجسسية لدولة ما، التي تتبع هرميّة واضحة، فإن امتحان «القوة الناعمة» يخضع لمسارات أشد تعقيدا بكثير، ويظهر بيان عدد من الروائيين والمثقفين العرب (الذين فازوا أو كانت لهم علاقة رسميّة بجائزة بوكر العربية) المطالبين إدارة الجائزة العالمية بوقف تمويل الإمارات لها بعد الاتفاق الإسرائيلي الإماراتي مؤخرا، مثالا على عدم سهولة إدارة القوّة الناعمة عند إخضاعها لامتحانات سياسية كبرى.
يقود الهدهد، في كتاب «منطق الطير» لفريد الدين العطار، ثلاثة عشر طائرا للوصول إلى الكائن الأسطوري السيمورغ، الذي لن يكون، في النهاية، سوى مرآة تعكس داخلية الحقيقة، وفي سعي الهدهد الإماراتي إلى السيمورغ، سيكون صعبا على شبكات قوتها الناعمة الواسعة، أن تتقبّل حقيقة الهدف الذي تسعى إليه، وستكتشف، على الأغلب، أن رحلتها لم تكن إلى السيمورغ، بل صفقة، تشبه صفقة الخيميائي يوهان فاوست، الذي يبرم عقدا مع الشيطان يسلمه فيه روحه مقابل الحصول على الملذات!
*القدس العربي