يقدم الأنثروبولوجي الأمريكي مارفن هاريس في أحد فصول
كتابه «ألغاز الثقافة» الصادر عام 1974 (وبترجمة لأحمد م. أحمد عام 2017 عن
المركز العربي للأبحاث والدراسات) قراءة مناقضة لسردية نشوء المسيحية،
تؤطرها ضمن السياق التاريخي لـ»حرب العصابات» اليهودية ضد الإمبراطورية
الرومانية.
تنسف هذه القراءة سردية أساسية في السيرة المعروفة ليسوع المسيح، وتمدها
بالنسغ التاريخي والجغرافي الضروريين، لإعطائها معنى ثقافيا جديدا، كما
تسمح برؤية شديدة التكثيف والإبهار، من قبلنا كقراء، تلتقط المعاني الكبرى
لكنها تقلب الأسماء فيها قلبا إبداعيا، وخصوصا لشعوب عربية عديدة، بينها
الفلسطينيون، الذين يخوضون بدورهم «حروب عصابات» هائلة ضد امبراطورية روما
الجديدة، كما يخوضون صراعا ضد وكلائها المحليين، وهو عين ما يراه الكتاب في
سيرة المسيح.
قضى عيسى (أو يسوع) معظم حياته، حسب كتاب «ألغاز الثقافة»، في «المسرح
المركزي لإحدى انتفاضات حرب العصابات الرهيبة في التاريخ» ضمن صراع «استمر
بالتفاقم أمدا طويلا بعد إعدامه»، فبين عامي 40 قبل ميلاد المسيح و73 بعده
يذكر المؤرخ الروماني اليهودي فلافيوس يوسيفوس خمسة على الأقل من
«المخلصين» الحربيين، ففي زمن يسوع كان هناك «كثير من المخلصين المنتظرين
في فلسطين»، فكيف، والحالة ظهر «المخلص المسالم» في خضم مسيرة 180 عاما من
حروب السكان المحليين لفلسطين ضد روما؟
الامبراطورية تحتاج مخلصا مسالما
«لم يكن يسوع بالقدر الذي شاع اعتقاده»، يقول هاريس، ولم تمثل
تعاليمه «انقطاعا جوهريا عن تقاليد الخلاصية الحربية اليهودية»، فالقطيعة
الحاسمة مع تلك التقاليد جاءت بعد فترة طويلة من صلب المسيح، والمقصود
بذلك، أن سيرة يسوع أعيد تفسيرها لتلائم جمهورا جديدا، لا يريد الاشتباك مع
الامبراطورية ولا يحتاج إلى مخلص حربي، بل إلى مخلص مسالم.
مهم هنا تذكر أن تهديد يوحنا المعمدان، قريب يسوع، لحاكم البلاد الروماني
هيرودوس، حربي خلاصي صرف: «سيأتي شخص أقوى مني سيعمدكم بروح ونار»،
ومقاربته مع قول هاريس، إن المسيح أيضا، كان «منخرطا في مسار تصادمي
سينتهي، إما باعتقاله أو بتمرد كارثي».
لم يكن في ما فعله يسوع وأتباعه بعد دخولهم القدس شيء مسالم، وكانت الحشود
الصاخبة، حيثما تجول في شوارعها خلال النهار الذي دخل فيه المدينة، تلتف
حوله وتحاصره، وعندما حل الظلام انسل يسوع الى بيوت مقربيه، مخفيا مكانه عن
الجميع باستثناء النواة الداخلية لتلاميذه، وبذلك لم يفعل المسيح وتلامذته
ما يمكن أن يميزهم عن عناصر الحركة الحربية – الخلاصية الأوائل: لقد
أثاروا مواجهة عنيفة، إذ اقتحموا فناء الهيكل وهاجموا جسديا تجارا لديهم
رخص بتبديل العملات، كي يتمكن الحجاج الأجانب من شراء حيوانات الأضاحي،
واستعمل عيسى السوط ضدهم في هذه الحادثة، وكان لبعض تلاميذ يسوع ألقاب
حربية مثل يعقوب ويوحنا بوانيرجس وترجمتها عن الآرامية «أبناء الرعد»، وحمل
بعض التلامذة السيوف، وكانوا متحضرين لمقاومة الاعتقال، وقبل أن يقاد إلى
الحبس قال: من ليس له سيف فليبع ثوبه وليشتر سيفا.
سجلت الأناجيل الأربعة إذن أن التلامذة أعدوا مقاومة مسلحة في لحظة إلقاء
القبض على يسوع، وينتبه هاريس إلى قضية مهمة، ويمكن متابعة نظائرها لدى
أغلب النظم الامبراطورية وهي، أن الرومان «لم يكونوا مهتمين قط بآراء يسوع
الدينية، لكنهم كانوا قلقين للغاية بخصوص تهديداته بتدمير الحكومة
الاستعمارية».
لم تكن صورة يسوع كمخلص منتظر مسالم مكتملة على الأرجح، لكن العمل كان جاريا على الأرض بإشراف بولس من أجل عبادة خلاصية سلمية خلال الفترة بين موته وكتابة أول إنجيل.
ما لله لله وما لقيصر لله
فشل كتاب الأناجيل في فهم نمط حياة ثقافة يسوع، لكن تركيزهم على كونه «المخلص المسالم»، لم يمكنهم من محو آثار التقليد الحربي الخلاصي المتواصل في سيرته، الأمر الذي تكشفه، حسب مارفن هاريس، تناقضات في أقوال المسيح حين نقارن مثلا بين قوله «طوبى لصانعي السلام» (متى فصل 5)، مع جملة تقابلها وتناقضها: «لا تظنوا أنني جئت لألقي سلاما على الأرض. ما جئت لألقي سلاما بل سيفا» (متى فصل 10)، وكذلك بالمقارنة بين: «لا تقاوموا الشر، بل من لطمك على خدك الأيمن فحول له الآخر أيضا» (متى فصل 5)، والتي يناقضها قوله: «أتظنون أني جئت لأعطي سلاما على الأرض. كلا أقول لكم بل انقساما» (متى فصل 10). في لحظة فاصلة من قصة المسيح يسأله الفريسيون والهيرودوسيون إن كان على اليهود دفع الجزية للرومان فيجيب: «إعط لقيصر ما لقيصر واعط للرب ما للرب»، وحسب هاريس، فإن هذا يمكن أن يعني شيئا واحدا فقط للجليليين الذين شاركوا في ثورة يهوذا الجليل، ضد ضرائب الامبراطورية الرومانية: «لا تدفعوا ضرائب»، فيهوذا الجليل قال إن كل شيء في فلسطين يعود إلى الرب، ولكن مؤلفي الأناجيل وقراءهم لم يعرفوا على الأرجح شيئا عن يهوذا الجليل، وقاموا بتفسير رد يسوع بالغ الاستفزازية بشكل خاطئ، واعتبروه موقفا تصالحيا مع الحكومة الرومانية.
لم تكن صورة يسوع كمخلص منتظر مسالم مكتملة على الأرجح، لكن العمل كان جاريا على الأرض بإشراف بولس من أجل عبادة خلاصية سلمية خلال الفترة بين موته وكتابة أول إنجيل. بعد الحروب الخلاصية الفاشلة دعت الضرورة العملية الملحة المسيحيين لإنكار أن دينهم نشأ ضمن الاعتقاد اليهودي بالمخلص المنتظر الذي سيسقط الإمبراطورية الرومانية. لقد انفصل المسيحيون عن اليهود عبر هذه السردية الجديدة، فالمسيحيون، بحسبها، مسالمون لا يؤذون، وليست لديهم طموحات دنيوية، والخلاص ليس حربيا، بل يوجد في الحياة الأبدية، وهذه التعاليم لم تشكل تهديدا للرومان، وصار الرومان بريئين من أي ذنب بخصوص موت المسيح، وبذلك يكمن معنى المخلص المسالم في ساحات المعارك وبعد معركتين فاصلتين أرضيتين. لقد صارت المسيحية دين الجماعات الحضرية النازحة، ولم تشكل تهديدا للامبراطورية الرومانية إلا بعد تغلغلها في الطبقة العليا، وبنائها منظومات مالية مستقلة، وشركات عالمية يرأسها مديرون ماهرون.
إحدى المفارقات الكبرى في هذه السردية حصلت عندما قرر الامبراطور قسطنطين اعتناق المسيحية باعتبارها ثقافة المخلص المنتظر المسالم، ليقود جيشا صغيرا عام 311 عبر جبال الألب، حيث ظهر المسيح لقسطنطين وأمره بتزيين بيرقه العسكري بالصليب، أي أن انتشار عقيدة «أمير السلام» تمكنت أخيرا من إنجاز خلاص حربي لتسود، وتحت هذه الراية الجديدة، يقول الكتاب، «انطلق جنود قسطنطين لانتصار حاسم، واستعادوا الامبراطورية، وضمنوا بهذه الوسيلة أن صليب المخلص المنتظر المسالم، سوف يشهد على موت ملايين لا حصر لها من الجنود المسيحيين وأعدائهم».
قدمت سيرة المسيح مجالات لقراءتها بشكل لا يحصى ثقافيا وسياسيا، ولعل من أقرب هذه القراءات التأويلية إلى موضوعنا هنا رواية نيكوس كازنتزاكيس «المسيح يصلب من جديد» حين تتقمص مجموعة من الشخوص أدوار أبطال السيرة المسيحية، وحين يتمثل مانولي، راعي الأغنام، أخلاق المسيح ويهاجم تجار القرية الجشعين ويرفض استغلالهم للنازحين وصولا إلى صراع داخل القرية بين عمدتها وقسيسها ومانولي وتلاميذه وقسيس اللاجئين، يؤدي إلى صلبه فعلا. تساعد أطروحة هاريس في تأكيد الحاجة لقراءة الظواهر الثقافية والدينية ضمن سياقاتها التاريخية، كما في الحاجة لقراءة التحولات الهائلة في السرديات الدينية والثقافية (كما فعلت في مقالة سابقة حول «القراء» المسلمين الذي سموا الخوارج وانتظم أتباعهم في مذهب «الأباضية»)، وسيكون ممتعا استخدامها في قراءة إبداعية، تتبدل فيها حرب العصابات اليهودية، بسير المقاومة الشعبية الجارية في فلسطين الحالية، ضد الامبراطورية والمنظومة الإسرائيلية، ضمن سياق ثقافي وديني وسياسي جديد، وتُستكشف في ضوئها التاريخي المقارن حقائق (أو أوهام) المخلصين الحربيين والسلميين الجدد!
القدس العربي