جرت في فرنسا، في بحر أسبوع واحد، ثلاث وقائع ترتبط جميعها بالعلاقة بين فرنسا و»الآخر» (أو ما هو مفترض أنه آخر)، ولم تكن أبدا مصادفة أن هذه الوقائع كلّها تنتمي إلى حقل العلاقات بين فرنسا والإسلام/ المسلمين والعرب.
أول هذه الوقائع كانت حديث الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون عن أن الإسلام يعاني أزمة حول العالم، كاشفا عن خطة فرنسية لمحاربة ما سماها «الانفصالية الإسلامية»، ما أثار ردود أفعال واسعة، سواء بين الجمهور أو بين جهات، دول ومؤسسات، تعتبر نفسها معنية بالحديث عن الإسلام والمسلمين.
وثاني هذه الوقائع كانت اتهام القضاء الفرنسي للرئيس السابق نيكولا ساركوزي بـ»تشكيل عصابة إجرامية»، في إطار التحقيق في احتمال حصوله على تمويل من الزعيم الليبي الراحل معمر القذافي لحملته الانتخابية سنة 2007، أما الثالثة فهي حادثة ذبح شاب فرنسي من أصل شيشاني لمدرس تاريخ، بعد انتقادات أهلية وجهت لعرضه صورا لكاريكاتيرات شهيرة تسخر من النبي محمد ضمن درس حول «حق التعبير».
لم يثر خبر ساركوزي الأخير كبير اهتمام، بسبب تكرّر الأخذ بتفاصيله على مدى سنوات طوال، لكنّه حالما يوضع ضمن الحدثين الآخرين فسيكتسي معنى قد يعيد أهمّيته، من ناحية، ويمكن أن يعطي اضاءة مختلفة للنقاش حول الحدثين الآخرين، من ناحية أخرى.
حين يصبح ابن الأقليات وزير داخلية
تعود أصول ساركوزي إلى والد من أصول مجرية كاثوليكية (أي أن والده كان من أقلية دينية في بلاده الأصلية)، وأمه من أصول يهودية يونانية (أيضا أقلية دينية في بلاد أغلبيتها مسيحية أرثوذكسية)، ولكنه اشتهر خلال عمله وزير داخلية بمواقفه المتشددة حيال شبان الضواحي والأقليات الدينية والعرقية، بحيث اعتبر «الرجل القوي» في اليمين الذي دعا إلى «تغيير عميق» في البلاد، متخذا خطا سياسيّا، اقترب من شعبوية اليمين المتطرف، حيث استحدث «وزارة للهجرة والهوية الوطنية» ساهم في وصوله إلى الرئاسة، كما كان، على صعيد السياسة الخارجية، الرئيس الأكثر ولاء لأمريكا وإسرائيل، ولكنّ الأغلب أن يذكره التاريخ باعتباره متهما منذ عام 2012 بتلقّي أموال من نظام معمر القذافي، ضمن قضية تعرف بالاسم الأسطوري اليوناني «بغماليون»، وصولا إلى اتهامه الأخير بـ»تشكيل عصابة إجرامية».
تختلف قصة ماكرون كثيرا عن قصة الصعود العجيب لساركوزي ابن المهاجرين، الذي انقلب مدافعا عن «الهوية الفرنسية»، وأحد المتشددين ضد المهاجرين، فقد جاء الرئيس الحالي من «التيار الأساسي» للهوية الفرنسية، وهو أشبه بالتلميذ المحظوظ، الذي تزوج معلمته، ورغم تعلمه في مدرسة يسوعية خاصة، فقد عانى لاحقا مع المعلمين، حيث فشل مرتين في امتحان القبول بمدرسة الأساتذة العليا قبل أن ينجح لاحقا ويحصل على دبلوم الدراسات العليا في الفلسفة والتخرج في معهد للدراسات السياسية ليعمل بعدها في بنك روتشيلد، ثم يتعين وزيرا للاقتصاد والصناعة والاقتصاد الرقمي، في عهد الرئيس الاشتراكي فرانسوا أولاند، قبل أن يصبح رئيسا في انتخابات نافس فيها زعيمة اليمين المتطرف الفرنسي مارين لوبان.
الافريقيات ينجبن 8 أطفال!
هناك علامات في تاريخ ماكرون، القادم من صفوف الاشتراكيين، تدل على المسار الذي يتموضع فيه حاليا، ففي قمة مجموعة العشرين عام 2017 تحدث مع صحافي من ساحل العاج، سأله عن إمكانية اتباع سياسة أوروبية تشبه مشروع مارشال الأمريكي، لتنفيذها في افريقيا أجاب قائلا إن «المشاكل التي تواجهها افريقيا اليوم مختلفة تماما وهي حضارية»، معطيا مثالا على ذلك بالافريقيات اللاتي ينجبن «7 أو 8 أطفال»، ويمكن، من دون صعوبة بالغة، وضع خط حالي يربط بين مواقفه الداخلية المثيرة للجدل، حول «قيم الجمهورية» و»الانفصالية الإسلامية» (وكذلك صراعه مع الاحتجاجات الاجتماعية للسترات الصفر)، مع مواقفه الخارجية، التي تقترب كثيرا من الحلف المتشكّل في الشرق الأوسط لاستبدال العداء مع إسرائيل بالعداء مع «الإسلام»، الذي هو عمليا، لقب مخفّف للأقليات الدينية والعرقية غير الكاثوليكية، كما هو، في السياق العربي، اسم فنّي للحراك ضد التغيير في طوق الاستبداد العربي.
لقد توحّد فجأة مسار ماكرون «الفلسفي» والماليّ مع مساره السياسي، ووجد ضالّته في المشكلة الحضارية مع الأقليات الدينية والعرقية، خصوصا مع قرابة 5 إلى 6 ملايين مسلم في فرنسا، وكذلك في افتراق فرنسا عن التخلف الحضاري في افريقيا وآسيا. يجد هذا المسار حيزه الواقعي في تحول فرنسا إلى قوة استعمارية مجددا في «الشرق الأوسط» وافريقيا، وبدعم إنشاء «منتدى غاز شرق المتوسط»، الذي يحاول إزاحة تركيا، ويضم إسرائيل واليونان ومصر وقبرص والأردن، وبذلك تتكامل فرضية التخلف الحضاري في الأديان والشعوب، والاقتراب الحثيث من طروحات اليمين المتطرف في فرنسا والعالم، وينتهي المسار «الفلسفي» لماكرون، بالوصول إلى دعم العسكر والأنظمة الأمنية العربية ضد الشعوب «المتخلفة»، باعتبار هذه الشعوب، ومهاجريها في فرنسا وأوروبا، التمثيل الحقيقي لأزمة الإسلام، وتضافر الحرب الرمزية ضد «الانفصاليين» الإسلاميين، والنساء الافريقيات المتخلفات، مع الحرب على الغاز في شرق المتوسط، وعلى النفط في ليبيا، وعلى التواجد العسكري في أكثر من بقعة جغرافية.
من الهوغنوت إلى اليعاقبة
تجتمع في الحكاية المفجعة لذبح مدرس التاريخ، عناصر الانتقالات العنيفة بين الرمزي والفعلي، فتتراكب قضايا ابن الكاثوليكي المجري واليهودية اليونانية، بمتطلبات الصعود الى السلطة، وصولا إلى تشكيل عصابة إجرامية، وتتراكب قضايا الطالب الذي تزوج معلمته، ودرس الفلسفة والسياسة، ومارس التفتيش المالي والرئاسة، ليصل في مرحلة «إشراقية» إلى اكتشاف خصومه الداخليين الذين يهددون «قيم الجمهورية» وخصومه الخارجيين المتخلفين حضاريا، وينتج عن اشتباك عقيدة المهاجر المولود في فرنسا، الذي يعتبر العنف الرمزي ضد نبيّه عملا يستحق الثأر بقطع رأس مدرّس، ثم الموت «شهيدا» في سبيل دينه، مع عقيدة المعلم الذي رأى أن حرية التعبير شأن مقدّس أكثر من الأديان.
تتدافع في كل ذلك العناصر الرمزية والواقعية وتشتبك بعنف: علمانية، قيم جمهورية، حرية تعبير، إرهاب، انفصاليون إسلاميون، تخلف حضارات، قادة نظم ديمقراطية ترغب في أن تصبح سلطوية، فتتحالف مع نظم سياسية طغيانية ووحشية، وتختلط قضايا العلمانية وحرية التعبير وشعارات العنصرية والانتقام الدموي للمهاجر المتطرف بشبكة المصالح، وشيفرات التغلب والهيمنة والتسلط، ويتصاعد النقاش حول الأولوية: أهي لبيضة الأيديولوجيا؟ أم لدجاجة الواقع السياسي والاقتصادي والاجتماعي؟
هل يمكن أن نقرأ في هذه الاشتباكات العنيفة رغبة المعلم، بإعطاء تلاميذه دروسا في العلمانية، وحرية التعبير وقيم الجمهورية، فيفهمها بعض أهالي الطلاب استعلاء واحتقارا للثقافة التي جاؤوا منها، واستحضارا لفظائع وأهوال الاحتلالات السابقة والانتهاكات اللاحقة؟ وكيف نقرأ جدلية صعود الفاشية من قلب الأنوار، وإرث العنف ضد الهوغنوت البروتستانت ثم “إرهاب الدولة” الثورية خلال حكم اليعاقبة، وكيف نفسر كون الفاشيّة عنصرا أساسيا في السياسة الفرنسية اليوم (وفي السابق)؟
كيف نقرأ أيضا الجريمة التي ارتكبها الشاب الشيشاني بحق معلّم، وهو رمز مدني مبجّل؟ هل هي انتقام للدين والنبيّ المنتهك، وتعبير عن ارتداد العنف الفرنسيّ نفسه ضد المهمشين والأقليات، في امتزاجه بتقاليد الطغيان في بلدان «الحضارات المتخلفة» التي جاء منها؟ أم أن المشكلة في العنف المخزون في الإسلام، الذي تعبّر عنه آيات الجهاد والقتال وفتاوى التكفير، وعمليات «القاعدة» في نيويورك و»الدولة الإسلامية» عبر العالم؟
ما لا يختلف عليه، في اعتقادي، هو أن العنفين الرمزي والفعلي متشابكان، وأنهما جزء من آليّة تحوّل انتهاك المقدسات إلى إرهاب، وتحول الشعارات والعقائد – من العلمانية وحرية التعبير والإسلام – إلى أدوات لصراع هائل، ينقلب فيه الانتهاك إلى انفجار، وحرية التعبير إلى صواريخ نووية ونفط وغاز.
*القدس العربي