لم تكن الكاتبة الإنكليزية ماري (غودوين) شيلي سباقة في مجال كتابة رواية الخيال العلمي بكتابتها روايتها الأشهر «فرانكنشتاين» بعمر 16 عاماً، بل كانت أيضا رائدة في قضايا عديدة أخرى، سواء في كتاباتها، أو في سيرة حياتها المذهلة، التي جمعت بين الفكر الحرّ والرغبة في تغيير أركان المجتمع والسياسة والتقاليد، والانحناءات الحادّة المليئة بالميتات الغريبة، التي ساهمت بالتأكيد في حبكات الروايات التي كتبتها، وكذلك في طريقة تعاملها مع العالم والحياة والأشخاص حولها.
يمكن تتبع آثار الأفكار الثوريّة لدى شيلي مع والديها، فقد كان أبوها فيلسوفا سياسيا راديكاليا، معاديا للأرستقراطية والنظم الاجتماعية والسياسية السائدة، كما كانت أمّها أيضاً مدافعة قوية عن حقوق النساء الأساسية، في زمن كان يتطلّع لتغييرات عاصفة في كل المجالات.
اختلطت هذه الأفكار الثورية بعاطفية رومانتيكية ميّزت تلك الحقبة وامتزجت، في أعمال ماري، بالنزعة «القوطيّة»، التي تمزج بين العمل الأدبي والفني والرعب والموت، والرومانتيكية في أحيان كثيرة، والتي تعتبر رواية «قلعة أوترانتو» الصادرة عام 1764 للمؤلف الإنكليزي هوراس وولبول، وتحت عنوان فرعي «قصة قوطيّة» بداية لمرحلته، التي كانت امتدادا تجديديا لحركة الأدب الرومانسي، التي انطلقت في القرن الثامن عشر، وأخذت منحى إبداعيا في القرن التاسع عشر مع «فرانكنشتاين» ماري شيلي، وأعمال إدغار ألان بو وبرام ستوكر (كاتب «دراكيولا») في السرد القصصي، ولدى صامويل كولردج ولورد بايرون في الشعر.
غرام عند قبر الأمّ
في تعليق للشاعر كولردج على ماري وإخوتها قال إنهم أشبه شكلا بالموتى، والحقيقة أن الطابع المرعب لأعمال ماري فيه أصداء كثيرة من حياتها، فأمّها توفيت عندما كانت صغيرة (يقال إنها تعلمت القراءة من الكلمات على قبر والدتها) وانتحرت أختها غير الشقيقة، كما انتحرت زوجة حبيبها (ما سمح لهما بالزواج)، وقد توفّي لها ثلاثة أطفال منه، وقد توفّي هو أيضا غرقا وهي ما تزال في الواحدة والعشرين. جسدت ماري إذن في حياتها وأعمالها هذا الجدل الغريب بين الوقائع والأفكار، فبسبب شهرة أبيها وأمها وآرائهما الجذرية، التقت ببعض أهم الشخصيات الأدبية والفكرية والراديكالية في عصرها، وكان الأكثر تأثيرا فيها طبعا الشاعر الشهير بيرسي شيلي، الذي كان معجبا بأفكار والديها، ومؤمنا شديدا بضرورة إنشاء مجتمع جديد بأفكار حرّة، وهو ما كان مبتدأ الحب الذي جمعهما ثم زواجهما.
كان للشاعر لورد بايرون أثر كبير عليهما (وعلى جيل كامل من الأدباء والفنانين)، ويُحسب للأخير أنه، خلال رحلة جمعتهم، أعطى ماري فكرة روايتها الأولى «فرانكنشتاين»، وبهاته الأحداث والأشخاص انطبعت حياة ماري بالطابع «القوطي»، الذي يجمع الرومانسية بالرعب، وكانت تفاصيل حياتهما نسيجا من محاولة تأسيس مجتمع جديد والانتماء لحركة رومانسية، بدءا من لقائها الغراميّ الأول، الذي جرى عند قبر أمّها، ومرورا بوفاة أطفالها الثلاثة منه (ونجاة الرابع)، وانتهاء برحيله هو نفسه في واحدة من رحلاتهما العجيبة الكثيرة، ورحيلها هي أيضا بمرض خبيث في الدماغ، لكن ليس قبل أن تترك أثرها المهم على هذا النوع الأدبيّ الشهير الذي حفرت فيه.
من هو الشرير: البشر أم فرانكنشتاين؟
تسيء الأفلام الكثيرة التي ظهرت انطلاقا من «فرانكنشتاين» لمعنى الرواية، التي يمكن أيضا تتبع جذرها من حياة ماري في طفولتها، حيث كانت مصابة بمرض جلديّ جعلها تتعرّض بالتأكيد لأشكال من القسوة والتنمّر والإقصاء، فقارئ الرواية يجد أن ماري اعتبرت فرانكنشتاين شخصية مفكّرة وعميقة، وقد اعتبرته في العنوان الفرعي للطبعة الأولى من الرواية (التي صدرت من دون اسمها عليها) بروميثيوس الحديث، وهو الشخصية التراجيدية الإغريقية، الذي سرق النار من الآلهة وأعطاها للبشر، فعاقبهم زيوس كبير الآلهة بفتح صندوق «باندورا» لتملأ الشرور العالم، ولا يخلق فرانكنشتاين شريرا، حسب الرواية، بل يدفعه الناس لذلك بإساءتهم له بسبب شكله، وبالتالي فإن المشكلة هي في المجتمعات التي لا ترى العميق والإنساني بل تهاجم القبح حتى لو أخفى وراءه عقلا وعاطفة. تقوم ماري شيلي لاحقا بقلب كبير لهذه الفكرة، في روايتها «الإنسان الأخير»، وهي تتحدّث عن وباء يجتاح المناطق الحارة من العالم، فتمتلئ إنكلترا باللاجئين الذين يقوم ادريان (شخصية تشبه زوجها الشاعر الراحل) وصديقه لورد رايمون (بايرون) بمساعدتهم، وحسب الرواية فإن الوباء هو نتاج التلاعب بالطبيعة والإساءة للبشر.
قيامة الأرض
يقدّم هذا الطرح رؤية متبصرة وسباقة بشكل مذهل لظواهر كبرى يعاني منها كوكب الأرض وسكانه، وبذلك تتنبأ ماري شيلي عمليّا، وإن بشكل غير مباشر، بمجمل ما نعيشه اليوم من احترار لمناخ الأرض، وانتشار للأوبئة الجديدة القاتلة، وأمواج اللجوء البشريّ التي تدقّ أبواب أوروبا، وهي تقول بصراحة إننا إذا استمررنا في معاملة الطبيعة والإنسان بشكل سيئ، فسينقلب الأمر علينا شر انقلاب. تنتقل ماري شيلي في روايتها المذكورة من جرأة البشر، مزودين بالعلم، على التنطّع لموضوع الخلق المقدس دينيا، إلى الاقتراب من اليأس الكبير من جشع البشريّة واقترافها للموبقات الكبرى، واحتقارها للأخوة الإنسانية، وبعد أن كان الأمر يتعلّق بفرد واحد يجترئ وجوده على اكتشاف سرّ الحياة، ينتهي الأمر بقيامة كبرى للمعمورة برمّتها، التي تواجه طاعونا كاسرا لا يبقي على الأرض غير رجل واحد يتأمل مصائر الحياة والموت.
موت فرانكنشتاين في الرواية الأولى هو دليل على عدم قدرة البشر على التسامح، ونهاية تجربة بروميثيوس الحديث، الذي يعاقبه الناس وليس الآلهة، أما موت البشرية في «الإنسان الأخير» فهو إنذار مرعب بنتائج أفعالنا الفظيعة، التي تحوّل الطبيعة نفسها إلى فرانكنشتاين ضخم يقرّر الانتقام من هذا النوع المتمرد.
المصدر: القدس العربي