إذا اعتبرنا الزمن منذ خلق الأرض حتى يومنا هذا سنة واحدة، فإن كل الحضارة البشرية حصلت في أواخر الساعة الأخيرة من تلك السنة، ولعل هذه الساعة التي تقترب من نهايتها، بعد ألف جيل وحسب، ستنتهي أيضا بفناء ذلك النوع!
يقدّر تعداد البشرية، حين بدأت الحضارة الحاليّة مع الزراعة وبناء المدن الأولى والأديان والآداب والعلوم قرابة 5 ملايين إنسان، مؤلفين من عشائر صغيرة يبلغ عدد أفرادها 50 إلى 500 شخص، بعد أن هبط أسلافهم من أشجار افريقيا قبل ملايين السنين، وبدأوا مسارهم التطوّري العجيب، الذي زودهم بدماغ كبير أهّلهم لمواجهة الأخطار الهائلة التي تحيطهم.
رغم اختلاف دماغ هذا النوع الجديد للإنسان الحكيم، الذي تزاوج مع أسلاف آخرين مثل، نياندرتال لكنه لا يختلف في أسسه التكوينية عن أدمغة الحيوانات الأخرى، التي يستخفّ بها، والسبب طبعا هو أنه قاد، خلال هذه الحقبة القصيرة جدا، تطورا علميّا مذهلا، حوّل السيف والرمح إلى ترسانة نووية، كما حوّل العشيرة الصغيرة المؤهلة لمواجهة تحديات الطبيعة، كالحيوانات المفترسة والبرد والجوع والفيضان والبرق، إلى أمم كبيرة، بلغات وأعلام وجيوش وامبراطوريات.
سنحطم كل ما أبدعناه
غير أن المفارقة الكبرى والمذهلة هي أن «البشرية» التي صنعت كل هذا التطوّر الحضاري المذهل (والمخيف)، واستطاعت أن تتسيّد على كائنات الأرض الأخرى، فتسخّرها لخدمتها، لم تستطع أن تتطوّر بيولوجيا كفاية، كي يناسب دماغها القديم مخاطر العالم الجديد الذي صنعته، فبدأت، عمليّا، رحلة لا تقودها إلى فنائها وحسب، بل إلى فناء الكوكب الذي تعيش عليه أيضا.
أطلق كتاب «عقل جديد عالم جديد»، المنشور عام 1992، واحدة من أولى صيحات التحذير من الهاوية التي يسير فيها الإنسان، بسبب هذه الإشكالية، ورأى كاتباه، روبرت أورنشتاين وبول أيرليتش، أنه ما لم نطور وعينا «كي نتلاءم مع ما أنجزناه فسنحطم كل ما أبدعناه»، وأن ثمة منجزات صنعتها حضارتنا تهدد هذه الحضارة، بل تهدد «قدرة الأرض على تدعيم حياة البشر».
يطرح الكاتبان قضية تبدو مستحيلة الحل، فبرأيهما أن «الجهاز الذهني البشري» عاجز عن تفهم العالم الجديد، ويقترحان البدء بتدريب أنفسنا لنتعامل مع المستقبل، لأن العالم الجديد «يمتلئ بتهديدات لم يسبق للبشرية أن واجهت مثيلا لها»، وبذلك نقوم بتطوير «عقل جديد»، فهل هذا ممكن حقا؟ يقارن الكتاب بين اجتياح الخوف ملايين الأمريكيين، بشكل يؤدي إلى تغييرهم عاداتهم في السفر بعد أن يشاهدوا عملا قامت به مجموعة صغيرة من الإرهابيين في العالم، مع واقعة أن الأمريكيين يقتلون بالرصاص في كل يوم «عددا أكبر من كل من اغتاله الإرهابيون حتى تاريخ كتابة هذا الكتاب»، والحقيقة أنه رغم مقتل ما يقارب ثلاثة آلاف أمريكي في حادثة 11 سبتمبر/أيلول 2001 فإن هذه المقارنة ما تزال صحيحة (عدد قتلى الجرائم في الولايات المتحدة الأمريكية عام 2018 هو 16214 قتيلا)!
البشرية في مقلاة الضفدع
يشير الكاتبان إلى ما يعتبرانه المشكلات الحقيقية الكبرى التي تواجه البشرية: الانفجار السكاني، نمو مخزون الأسلحة النووية، عجز الميزانية، تخلف التعليم… وتدهور البيئة «التي يتوقف عليها وجودنا ذاته»، ويعزو الكتاب أمر اهتمام البشر، أمريكيين وغير أمريكيين، بمواضيع أصغر شأنا، كتغير أسعار الأسهم، ونتائج مباريات كرة القدم، وحوادث الاغتيال والاحتجاز وحوادث الطيران، من القضايا التي تهدد بفنائهم، إلى طبيعة الدماغ البشري. لإظهار علاقة ما يحصل بطبيعة الدماغ البشري، يعطي الكتاب مقارنات أكثر حدة، مثل أن يحظى حادث سقوط طفلة صغيرة في بئر بعناوين الصفحات الأولى (هذا يذكرنا بآلاف أطنان الصفحات من التقارير والأخبار والبرامج، التي ظهرت في بريطانيا والعالم حول اختطاف الطفلة مادلين مكين في البرتغال عام 2007)، وفي صرف المليارات على العلاج الطبي «بينما نهمل الأعمال الوقائية التي نصون بها الزمن والحياة؟»، والجواب هو أن «الجهاز الذهني البشري يعجز عن تفهم العالم الجديد»، وهو ما سيجعل هذه القضايا خارج سيطرتنا ما لم ندرك «كيف تؤثر البيئة انتقائيا على ذهننا البشري».
لا تدرك حواس البشر العالم كما هو، لأن جهازنا العصبي ينتقي من الوقائع خلاصة صغيرة ويهمل ما عداها. إنه (مثل الضفدع في التجربة الشهيرة، الذي لا يشعر بالارتفاع التدريجي لسخونة الماء حتى يموت) لا يتأثر إلا بالتغيرات المثيرة: نحن نلحظ البداية والنهاية، ونغفل ما بينهما. يستوعب الناس، حسب الكتاب، كاريكاتير العالم الحديث وليس حقائقه المعقدة. هذا الأمر هو الذي يفسّر لماذا يستثمر النوع الوحيد المبدع من الأحياء كل هذا الوقت والطاقة والعبقرية لإنشاء ترسانات أسلحة ليس لها إلا أن تدمره؟ لماذا لم تراجع البشرية جهودها للبحث عن طرق يتعايش بها الناس من دون صراعات ليتمكن الجميع من الحياة، ولماذا لا يحاولون الحفاظ على الأرض التي يتوقف عليها بقاؤهم؟
حين حذّر أينشتاين رئيسه روزفلت
إن الطرق التي مكنتنا من البقاء والتطور صارت الآن هي الطرق التي تهدد هذا البقاء. بعد إسقاط القنبلتين الذريتين الشهيرتين على هيروشيما وناكازاكي أرسل أينشتاين برقية للرئيس الأمريكي روزفلت قائلا: «إن الطاقة الكامنة للذرة غيرت كل شيء إلا أساليب تفكيرنا. إننا نتجه نحو كارثة لا نظير لها». لقد أدى إنتاج الأسلحة النووية، إلى أن قوتها التفجيرية، إذا وزعت على شكل قنابل بحجم التي قصفت هيروشيما لأمكنها نسف المدينة كل ساعة لفترة تمتد 78 عاما!
لقد انتهى العالم القديم الذي صمم دماغنا للتعامل معه، ورغم فوائد «الاستجابات السريعة» المصممة لتحمينا من اللص وسقوط الشجرة وهجوم الكلب، لكنها لم تعد كافية للتعامل مع عالمنا الجديد، الذي قمنا فيه بكشوفات خارقة، لكننا قمنا أيضا بالحروب الكبرى والقنبلة النووية وتشيرنوبيل والأوبئة، وبذلك فإن قدرة البشرية على التعامل مع نتائج أعمالها قاصرة عن اللحاق بقدرتها على الإبداع، لقد مضى التطور الحضاري بشكل أسرع بكثير من التطور البيولوجي الملائم له، وبذلك فإننا أصبحنا غير متوافقين مع زماننا بشكل يفقدنا السيطرة عليه.
باختراع التلفزيون وغيره من أدوات الاتصال الحديثة أصبحنا نحس بالتهديد حتى من وقائع تحدث بعيدا عنا بآلاف الأميال، كما لو كانت طوارئ محلية، فيما نهمل وقائع تمثل تهديدات خطيرة. جهازنا العقلي القديم يحاول ثم يفشل دائما في تمييز المهم من التافه، المحلّي من البعيد. لم تتعارض كل الاختراعات التي أنجزناها مع النمط الحيواني المعياري للتخطيط لبلـــوغ أهداف قريــبة (قارن مثلا المفاخرة التي قام بها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب حول صاروخه الأكبر من صاروخ نظيره الكوري الشمالي كيم جونغ أون بمفاخرات السيف والرمح القديمة)، وهي استجابات لحاجات مباشرة نحس بها وليس لتغيرات تحدث عبر عقود.
لا حل لهذه الإشكالية الكبرى، لأن التطور الفيزيائي للمخ البشري أبطأ من أن يسعفنا، ولا شيء يضمن أن يتمكن البشر من تجنب الكوارث المقبلة، أو ألا تقع حرب نووية، غير أن الكتاب المتفائل يقترح أن يتثقف الإنسان في فروع معرفة جديدة مثل نظرية الاحتمال، وبنية الفكر، وأن يستكشف الإشارات التي تقدمها البيولوجيا التطورية، وعلوم الأعصاب والإدراك والمناخ وكيمياء الأرض، فعقلنا هو مصيبتنا ولكن فيه إمكانيات خلاصنا.
*المصدر: القدس العربي