حسام الدين محمد: سمكة تمشي على القمر.. هل نستطيع التخلّص من الماضي؟

0

قرأت، قبل أكثر من ربع قرن، في مجلة «المستقبل» التي كانت تصدر في باريس آنذاك، خبرا عن ابن صحافيّ سوري تفوق بشكل كبير على أقرانه الفرنسيين، في نتائج الشهادة الثانوية، وقرأت حينها أنه استخدم «حيلة» لطيفة للتفوق تقوم على التخلّص من منهاج التاريخ والتركيز على باقي المواد الأخرى، وهو أمر كان طلاب كثيرون يقومون به في سوريا، بعدم إيلاء اهتمام لمادتي التربية الإسلامية أو التربية القومية الاشتراكية والتركيز على المواد العلميّة أو الأدبيّة الأخرى!
حملت لي تفاصيل هذا الخبر حينها – ولا أدري بعد كل هذه السنوات مدى دقّته – محمولا رمزيا، فأغلب النخب، لا في سوريا وحدها، بل في مجمل «الدول النامية»، كما كانت تسمى آنذاك، كانت تحاول التغلّب على هزيمتها العسكرية أمام أوروبا بالتركيز على التعلّم من المنتصر الذي يمثّل المستقبل والعلم والحداثة، والتخلّص من أعباء تاريخها الماضي الذي يمنعها من مجاراة المنتصرين.
تركّز الصراع الحادّ لإعادة تشكيل الواقع ضمن مصطلحات تشير إلى صراع «زمنيّ» بين الماضي والحاضر، مثل الرجعية والتقدمية، والتراث والحداثة. كانت الماركسيّة هي النظرية الفضلى لدى النخب السياسية، ومعسكر التقدم، ومثّلت بديلا حديثا عن القوى الأوروبية، الأمر الذي ترك تأثيره على القوى السياسية غير الماركسيّة، فتحدث منظرو البعث العربي الاشتراكي عن نضال حزبهم لتحقيق «الاشتراكية العلمية» (كما فعل ياسين الحافظ ومنيف الرزاز)، وتحدث منظرو الإخوان المسلمين عن «اشتراكية الإسلام»، كما فعل مصطفى السباعي، مؤسس حركة «الإخوان المسلمين» في سوريا، وعن «معركة الإسلام والرأسمالية»، كما فعل سيد قطب، في مصر.
تجسّد صراع الماضي والحاضر داخل الحركة الماركسية نفسها أيضا، فمثل الالتزام بالمنهاج السوفييتي الخطّ القديم «التراثيّ» و«التقليدي»، بينما مثّلت المدارس الصينية والأوروبية، والاجتهادات المحلّية، الخط الحديث «التقدّمي». كان هناك خطّ مواز لاستدخال الماضي في الحاضر، والقديم في الحديث، فبحث حسين مروة عن «النزعات الماديّة» في التراث العربي الإسلامي، واستخدم طيب تيزيني «المادية الجدلية» في دراسة التراث العربي الإسلامي، كما كانت هناك محاولات لتوظيف التراث (الإسلامي والجاهلي)، في أدبيّات البعثيين، حيث كان زكي الأرسوزي يرى العهد الجاهلي هو «العهد الذهبي» للأمة العربية، واعتبر ميشيل عفلق في رسالته الشهيرة «ذكرى الرسول العربي» أن «الإسلام هو الهزة الحيوية التي تحرك كامن القوى في الأمة العربية»، ولو مسحنا مجمل الأدبيات السياسية العربية، منذ دخول نابليون بونابرت إلى مصر عام 1798 حتى الآن، فسنجدها تدور، بشكل أو آخر، ضمن هذه المعادلة العجيبة مستحيلة الحل!

من النياندرتال إلى الضفدع المسلوق!

يسلك الجنــــين البشــريّ في الأسابيــــع الأولى من تشكّله، حسب علم الأحياء، منحـــى التطوّر الذي جاء من الأسماك (هناك كتاب مفيد في هذا الخصوص بعنوان «السمكة داخلك: رحلة في تاريخ الجسم البشري»)، ولا تتشابه أجنّة البشر مع أجنة بعض الحيوانات، كالتماسيح والفئران والدجاج فحسب، بل يظهر لديها في الأسابيع الأولى لتخلّقها ذيل يختفي لاحقا، ولكنّه يتابع النموّ أحيانا لدى نسبة نادرة جدا من الأطفال.

نحمل في تكويننا البشريّ عددا من آثار الخط التطوري للإنسان، فرض خط الانتقاء الطبيعي التخلّي عن وظيفتها المهمة لدى بعض الحيوانات، ومنها بعض العضلات خلف الأذنين، وهناك الحركة العصبية العضلية التي تجعل شعر اليدين ينتصب عند الشعور بالفرح أو الخوف (وهو ما يسمى بالانكليزية goosebumps)، وهي ديناميّة شديدة الأهمية للتدفئة لدى بعض الحيوانات والطيور، لم يبق منها لدى البشر سوى هذا الأثر الطفيف، إضافة إلى هذه العناصر الظاهرة في أجسامنا، هناك ظواهر أخرى كثيرة تربطنا، بشكل محكم، بماضينا السحيق، بدءاً من المادة الجينية التي نتشارك بها مع كل المخلوقات الحيّة على هذا الكوكب، ومرورا بماضينا المشترك مع أسلاف قريبين انقرضوا قبل فترة بسيطة جدا من عمر الأرض، مثل النياندرتال والدينيزوفان، وما زالت آثار من جيناتهم موجودة في جيناتنا، وهناك التركيبة المعقـــدة لأدمغتــــنا، التي تشبه إلى حد كبير، حال مدن قديمــــة، من حيث تراكب الأبنــية فوق بعضها بعضا، وفي أن جزءا كبيرا من أفعــالنا وقراراتنا، تتم بسرعة في الأجزاء القديمة الموروثة من ذلك الماضي السحيق، وكل ما نفعله، في الأجزاء «الحديثة» التي طوّرتها أدمغتنا كبشر عاقلين، هو أن نقوم بتبرير تلك الأفعال والقرارات وإعطائها معنى إنسانيّا أو أخلاقيا أو سياسيا.
هناك أيضا المفارقة الكبرى، التي أشرت إليها في مقال لاحق، عن أن التطوّر العلمي المذهل الذي أنجزه البشر لم يترافق مع تطوّر بيولوجي مماثل، فأدمغتنا، مثل دماغ الضفدع في التجربة المعروفة التي يُسلق فيها من دون أن ينتبه بالرفع التدريجي لحرارة الماء، لا نستطيع، أن نلمس ارتفاع درجة كوكب الأرض، ولا أن نرى المخاطر الهائلة التي تترتب على امتلاكنا الترسانة النووية، فنحن، والجزء الأكبر من نخبنا السياسية، ما نزال نفكر بعقلية العشيرة الصغيرة، المستعدة لإفناء العشائر الأخرى دفاعا عن مصادر الماء والغذاء.

يا أبي المهزوم ويا أمي الذليلة

خلال مشواري الطويل في تحليل النصوص الأدبيّة لاحظت وجود معالجتين رئيسيتين لقضية الماضي والحاضر، مشابهتين لمعالجة النخب السياسية المذكورة آنفا، تقوم الأولى بتحقير الماضي، العامّ (والشخصي في أحيان كثيرة)، وهجائه بشكل مرير، (كما فعل الروائي أحمد إبراهيم الفقيه في «سأهبك مدينة أخرى»، والجزائري محمد ديب في ثلاثيته: النول، الحريق، الدار الكبيرة، وزكريا تامر في عدد كبير من قصصه)، وتقوم الثانية بأمثلة الماضي، بشكل يجعل العودة إليه رجوعا إلى فردوس تاريخي مفقود، كما نرى في «موسم الهجرة إلى الشمال» للطيب صالح مثلا، أو في ما نراه من العودة الفردوسية إلى الطفولة لدى كثير من الأدباء والشعراء، كما نرى في بعض قصائد وأعمال نزار قباني ومحمود درويش وكثيرين.
هناك قصيدة مميزة للشاعر الفلسطيني توفيق زياد يهاجم فيها المجتمع والتقاليد والعائلة بشكل هجائي، فيقول فيها: «يا أبي المهزوم ويا أمي الذليلة/ إنني أقذف للشيطان ما أورثتماني من تعاليم القبيلة»، وفي مقابل ذلك، لدى محمود درويش، نجد «أحنّ إلى خبز أمي» و«تعاليم حوريّة» حيث «أمي تضيء نجوم كنعان الأخيرة».
إحدى اللقطات المثيرة للتفكر، والتي واجهتني، كانت في لقاء لي مع الروائي المصريّ رؤوف مسعد، الذي قضى سنوات في السجن أيام جمال عبد الناصر، بصفته عضوا في تنظيم شيوعي «طليعة العمال»، أنه حين عاد إلى بلدة آبائه في السودان، عامله بعض سكانها، من دون معرفة سابقة به، كما كانوا يعاملون أباه الكاهن القبطي ثم البروتستانتي، مخاطبين إيّاه بـ«يا أبونا»، واستنتاج مسعد أنه كان تحولا سريا لأبيه وأنه حقق «اكتمال الدائرة».
النتيجة، في رأيي، أن الماضي والحاضر، مثل زمن اينشتاين النسبيّ والمتعدد العناصر، هما اصطلاحان رمزيّان يستخدمان، في عرف الساسة لتحقيق أهدافهم، وفي عرف الأدباء لفهم أنفسهم والمواد المعقّدة التي تشكل الواقع، وفي عرف البشر عموما لتبسيط الأشياء. لكنّ تبسيط المعاني شيء والدخول في متاهة شيء آخر.

*المصدر: القدس العربي

ترك الرد

Please enter your comment!
Please enter your name here