تعدّدت طرق الناس في التعامل مع جائحة «كوفيد 19» العالمية (المعروفة أيضا باسم فيروس كورونا المستجد) وأحد هذه الطرق كان انطلاق موجة هائلة من السخرية في كافة أنحاء المعمورة، فلماذا، يا ترى، يتفاعل البشر مع خطر الموت، والتهديد بالعزلة والحجر، وانهيار الأسواق والأرزاق، بالضحك؟وإذا كان هذا أحد استجابات الإنسانية في كل مكان، فإنه مما لا شك فيه أن المفارقات في بعض البلدان (وخصوصا العربيّة منها، ومن في حكمها كإيران وتركيا) كانت أكبر بكثير لأنها تتنقّل بين حدود التراجيديا والكوميديا بشكل صارخ، ولأن المفارقات المبهظة فيها قادرة على تحدّي العقل والاعتياديّ والمشارفة الاعتيادية للهزليّ والساخر وحتى الميلودرامي.أثارت ظاهرة الضحك البشريّ الفلاسفة، ولعلّ استعادة سريعة لمواقفهم، ومقاربتها على ضوء أحوالنا المعاصرة، ستثير بدورها مفارقات ساخرة وتجعلنا نتفكّر في أهمّية هذه الظاهرة سياسيا، لأن السياسة، على ما يبدو، تخترق العلوم والنظم الفكرية جميعها، بما فيها الفلسفة.رفع أرسطو، على سبيل المثال، من شأن التفكه وجعله أحد حدّي الشعر: الكوميديا والتراجيديا، فارتقى به إلى مستوى الفن والجمال، كما أنه نبّهنا، إلى أن حاكما في زمانه (كما في زماننا!): «لم يسمح بتقديم جوقة من الممثلين الهزليين إلا مؤخرا».أما أفلاطون، فأشار إلى مضارّ الضحك وقدرته على «تخريب الوضع الراهن» و«إفساد النظام»، وإلى «قوته الهائلة على تحويل خطوط الدفاع القوية للسلطة إلى مجرد أبنية هشة»، وكانت الفكاهة، حسب ليلى العبيدي في كتابها «الفكه في الإسلام»، حسب إفلاطون، ألد أعداء السلطة، وما دام الضحك انفعالا وجب على «حكام الجمهورية» أن يتصدوا له حتى لا يتجاوز حده ويصبح وبالا على الحكام.أكثر الناس تبسّماتداول كتّاب سيرة الرسول العربيّ محمد، والكثير من كتب الحديث، أنه كان «من أفكه الناس» مع الصبية والأهل والأصحاب، وكان الرسول «أكثر الناس تبسما في وجوه أصحابه وتعجبا مما تحدثوا به وخلطا لنفسه بهم ولربما ضحك حتى بدت نواجذه»، وكانت الثقافة العربية الإسلامية «أكثر الثقافات ولعا بالفكه، فعبرت عنه بمفردات متنوعة مثل الهزل والمزاح والبطالة، ولم يترك الفكه مجال من مجالات الثقافة العربية الإسلامية إلا ولجه فهو موجود في الشعر والنثر والمقامة».واشتهرت كتب تتناول ظواهر ساخرة لقائمة طويلة من كبار أعلام هذه الثقافة من الكتاب والفقهاء المسلمين كالجاحظ والتوحيدي والأبشيهي وابن الجوزي والوهراني وكثيرين غيرهم، لكن بعض رموز الفقه، كأبي حامد الغزالي، كان له رأي مناهض للضحك والسخرية.يشبه رأي الغزالي، إلى حد كبير، رأي أفلاطون، وقد استخدم معرفته بالدين وسيرة الرسول مع التبسم والتفكه مع الآخرين ليخلص إلى تخصيص الرسول وحده بالأمر وتحريمه على المسلمين باعتباره آفة من الآفات المنهي عنها فالسخرية هي «الاستهانة والتحقير والتنبيه على العيوب والنقائص على وجه يُضحك منه وهذا محرّم مهما كان ومؤذ».نستطيع، من دون صعوبة تذكر، اعتبار موقفي أفلاطون والغزالي، وهما من ثقافتين ومنظومتين معرفيتين مختلفتين، أرضيّة لمواقف نجدها حاليّا ضمن أنماط من السياسيين والكتاب والفقهاء والإعلاميين، يزعجهم «تخريب الوضع الراهن وإفساد النظام»، على حد تعبير أفلاطون، أو يجدون «التنبيه على العيوب والنقائص» امرأ مؤذيا ويجب تحريمه، كما رأى الغزالي، وأن نجد مثيلا لما فعله حاكم أثينا من منع «الممثلين الهزليين»، كما سنجد صمودا رائعا لأجيال من الساخرين والضاحكين والمنبهين على النقائص والرغبين في «إفساد النظام».جاءت جائحة كورونا على العالم العربي في زمن استفحلت فيه أشكال الاستقطاب السياسيّ الحادّة وأصيبت فيه بعض البلدان، كسوريا واليمن وليبيا والعراق وبقية السلسلة، بأوبئة مرضيّة وأخرى سياسية ومعقدة قرّبتها من التفكك والانحطاط من دول دكتاتورية إلى دول فاشلة بعد عقود من الحفاظ على «الوضع الراهن والنظام»، وقمع من ينبّه على «العيوب والنقائص».تطهير الوطن من الجراثيمنتيجة هذه الأوضاع «الهزلية» كان طبيعيا أن تتنافس أنماط السخرية الشعبيّة مع تصرّفات وتصريحات المسؤولين التي تثير الضحك بمفارقاتها والكمد بغثاثتها، كما فعل وزير الصحة السوري نزار يازجي الذي سئل عما تفعله السلطات لمجابهة فيروس كورونا فأجاب أن «الجيش العربي السوري نجح في تطهير الوطن من كل الجراثيم»، وبعد إنكار السلطات انتشار الفيروس في البلد أعلنت إجراءات قاسية ضده، فعلّق إعلاميّ على الأمر بأن السلطات تكافح مرضا تقول إنه غير موجود.قامت وزيرة الصحة المصرية هالة زايد بنصيبها من هذه الركاكة الغثّة حين زارت المشفى المخصص للعزل الصحي مرتدية الكمامة بطريقة خاطئة، وتصريحها بأن المصابين بكورونا في مصر «يتعافون بدون أدوية»، وفيما كان يتوالى إعلان حالات عن مصابين بكورونا قادمين من مصر، وطلب دول، مثل السعودية، من المصريين القادمين إليها شهادة خلو من المرض، كانت السلطات المصرية تعلن حينها عن خلوّ البلاد من المرض أو اكتشافه لدى أجانب غير مصريين، وانتبه المصريون إلى زيارة قصيرة قامت بها الوزيرة المذكورة إلى الصين وكانت مناسبة للسخرية أيضا فقال أحدهم إن «كورونا كان بطيئا في قدومه لمصر فذهبنا للبحث عنه بأنفسنا.وزير الدولة لشؤون الإعلام، أسامة هيكل، قام بدوره في المسرحية الرسمية فهو من ناحية اعتبر ما نشر من تقارير أجنبية عن تفشّي الفيروس في مصر «جزءا من الحملة السوداء ضد مصر» وأن «الناس دي بتكرهنا»، هدّد، من ناحية أخرى، بإصدار قرار حكومي بعزل المصريين وبقائهم في منازلهم بشكل شبه كامل في مصر، اما وزير الأوقاف محمد مختار جمعة فزاد المبالغة حدة بالقول إن جماعة الإخوان المسلمين تسعى لنشر فيروس كورونا!لم يقصّر الإعلاميون المصريون من جانبهم، فظهر عمرو أديب في برنامجه الحكاية ليقول: «إحنا بنجلد نفسنا… ويوم ما تيجي الكورونا يبقى أهلا بالمعارك. إحنا المصريين يا كورونا. إحنا «عوّ» يا كورونا ومش بنخاف»، وقامت الإعلامية بسمة وهبة باتباع خطى وزير الأوقاف ولكنها اتهمت «لجان الإخوان» بنشر الشائعات.هناك رأي في علم الجمال يعتبر الضحك رد فعل أو تفاعلا مع الأشكال الأساسية للهزليّ الذي يقلب تأثير العظيم والجليل إلى تافه ومثير للضحك، وبذلك يحوّل التوتر الكامن إلى ضحك محرر ومريح تبعا لحجم التوتر، ولكنّ هذا لا يتضمّن، في رأيي، الظاهرة العربيّة الظريفة التي نتحدث عنها حين يكون «العظيم» و«الجليل»، ممثلا في نخب السلطة العربية، تافها ومثيراً للضحك بذاته ولذاته ومن دون ضرورة لإجراء انقلاب يحوّل أقواله أو أفعاله إلى هزل.يرى المسرحي السويسري فريدريش دورنمات إنه لا يمكن التعامل مع جنون العالم ومعالجته إلا بالكوميديا، فيما ينسب لنيتشه قول إن «عذاب الإنسان وصل إلى حد أجبره على اختراع الضحك»، والحقيقة أن أحد مواهب النخب السلطوية العربية أنها تختصر الطريق على مواطنيها، فتنتقل من التعبير عن جنون العالم وعذابه إلى التعبير عن الكوميديا، ولكنّها كوميديا مبتذلة، وعن الهزل، ولكنّه هزل غث.
المصدر: القدس العربي