أثارت حركة الرئيس التونسي قيس سعيّد في 25 آب/أغسطس جدلا كبيرا حول طبيعتها، ورغم وجود عناصر تشابه عديدة لهذه الحركة مع أنماط الانقلاب على النظام السياسي، بتركيز السلطات في يد شخص واحد عبر دعم الجيش والمؤسسة الأمنية، وكذلك وجود نمطية معينة لآليات صعود زعيم سلطوي نحو الديكتاتورية، فإن جزءا وازنا من النخب الثقافية والفكرية والسياسية، التونسية والعربية (بمن فيها أطراف تعتبر الحركة موجهة ضدهم، كالأحزاب السياسية والنقابات) تفاعل مع الحركة إيجابيا، سواء بشكل تكتيكي وظرفي أو بشكل حقيقي، ورفض تسميتها حركة انقلابية.
على تفاوت طبيعة الردود والمستوى السياسي والمعرفي لمستخدميها فقد كانت هناك خيوط تجمع بينها، من خلال التركيز على الطبيعة «الاستثنائية» لتونس، بدءا من استثنائية الرئيس نفسه، إلى استثنائية جيشها واختلافه عن جيوش المنطقة العربية، إلى استثنائية شعبها الذي لن يقبل أن يحكمه مستبد جديد.
مرّ هذا السياق بتحميل مسؤولية ما حصل على الأطراف السياسية التونسية، التي أوصلت البلاد إلى عنق الزجاجة، ومسؤولية حركة «النهضة» خصوصا، وبالشلل الذي أصاب السلطات التنفيذية، والتردي الذي وصل إليه حال البرلمان.
حاولت أبحاث أخرى بحث العناصر الاقتصادية التي لم تنجح الثورة التونسية في معالجتها، كالحديث عن وجود «لوبيات اقتصادية عائلية» عابرة للأنظمة، تعرقل التنافس الحر (تحدث سفير الاتحاد الأوروبي في تونس باتريس برغاميني لصحيفة لوموند عام 2019 عن تسع عائلات تتحكم في القرار الاقتصادي والسياسي في البلاد) كما أشارت بعض الأبحاث إلى الاستثنائية التي طبعت صعود الرئيس التونسي، بالاعتماد على أصوات قطاع شبابي عريض ومهمش، تم تحشيده وتحريكه، عبر داعمين للرئيس استخدموا التقنيات الرقمية الجديدة. تبدّى اختلاف سعيّد أيضا عبر تنظيره المستقبليّ الذي يعتبر الأحزاب السياسية شيئا من الماضي، وإعلانه عن أفكار لتغيير النظام السياسي، عبر تطوير التمثيل الشعبي عبر المجالس المحلية، وليس عبر المؤسسات التقليدية كالبرلمان والأحزاب.
سعيّد بين العقلانيين والتجريبيين
تعطي هذه العناصر منطقا للحديث فعلا عن استثناء تونسي، يتجلى في امتلاك الرئيس، مدعوما من الجيش والأمن والتأييد الشعبي (ورضوخ حزبي ونقابي) سلطات واسعة، وهو ما سيسمح بتغيير في النظام السياسي، يؤدي لكسر الدائرة المغلقة للأزمة السياسية ـ الاقتصادية لتونس، لكنّ هذا التغيير يفترض أيضا أنه سيقطع مع منطق تاريخي يستند إلى إرث عدد كبير من البلدان والتجارب والزعماء الشعبويين التائقين لتركيز السلطات في أيديهم، وسرعان ما يتحول الزعيم الشعبيّ إلى طاغية دموي، يجر بلاده إلى «ثقب أسود» سياسي واقتصادي كبير.
ماذا سيحصل لو سحبنا قضية الرئيس التونسي، وهذه المواجهة بين الفريقين، إلى حقل الصراع الفلسفي القديم بين العقلانيين والتجريبيين؟
يرى العقلانيون أن مداركنا وحواسنا تخدعنا، وأن السببية المنطقية هي الطريق الوحيد المؤكد للمعرفة.
التجريبيون، من جهتهم، يؤمنون بأن المنطق العقلاني خادع، وبأن المعرفة يجب أن تأتي من التجريب والملاحظة.
يميل الفلاسفة الفرنسيون إلى العقلانية، أما الأنغلو ـ ساكسون فتجريبيون.
النقاد، المحامون، وأساتذة الرياضيات عقلانيون، أما الأطباء والعلماء فتجريبيون.
يميل العقلانيون إلى التخطيط لكل شيء سلفا، قبل أن يخطوا خطوتهم الأولى، أما التجريبيون فيفضلون تجريب الأشياء ثم رؤية النتيجة.
لقد كان العقلانيون والتجريبيون موجودون منذ ما قبل نشأة الحضارة، والخلاف بين العقلانيين والتجريبيين هو أحد المسائل الفلسفية المفضلة. لقد كان أفلاطون عقلانيا، وكان أرسطو من أوائل التجريبيين، لكن النقاش أخذ مجاله العميق خلال فترة النهضة الأوروبية، حيث كان ديكارت وسبينوزا ولايبنتز من قادة الفكر العقلاني، فيما كان لوك وبيركلي وهيوم نظراءهم التجريبيين.
معتمدين على قدراتهم في الاستنتاج أنتج العقلانيون مجموعة نظريات حول الكون لم تنجح في الصمود أمام الزمن، لكنهم أنجزوا أيضا تقنيات رياضية أساسية. التجريبيون كانوا عمليين أكثر، وقد امتد تأثيرهم إلى كل الحقول، من مناهج العلوم إلى دستور الولايات المتحدة الأمريكية.
ديك برتراند راسل العقلاني
كان ديفيد هيوم أعظم التجريبيين، وقد اعتبره تشارلز داروين وآدم سميث بين أكبر المؤثرين فيهما. أخذ هيوم أفكار التجريبية من لوك إلى مداها الأوسع وابتكر مسألة بقيت معلقة فوق المعرفة، وهي: كيف يمكننا تبرير تعميم شيء رأيناه على شيء لم نره؟ وقد ناقش الفلاسفة، منذ ذلك الحين، مسألة هيوم من دون الوصول إلى جواب مرض. كان برتراند راسل يحب عرض هذه المسألة بقصة ديك الحبش ذي العقل الاستنتاجي. في صباحه الأول في المزرعة، تناول الديك طعامه في التاسعة، ولأنه ذا عقل استنتاجي جيد، لم يقفز نحو استنتاجات محددة، لقد قام بجمع عدد من الملاحظات في أيام عديدة في ظروف مختلفة، ولكونه يطعم بشكل دائم في التاسعة صباحا لأيام كثيرة، وصل أخيرا إلى استنتاج أنه سيتم إطعامه دائما في التاسعة صباحا، بعد ذلك جاء عيد الميلاد، وتم ذبحه للعشاء.
والحقيقة أن مسألة هيوم كان يمكن أن تكون قضية مسلية، لو أن الجواب عليها لا يؤدي إلى نتائج خطيرة، تفيض عن قضية ديك الحبش العقلاني، وتتعلق، أحيانا كثيرة، بمصائر شعوب. ماذا يحصل، مثلا، لو أننا افترضنا أن المستقبل سيكون مثل الماضي؟ وإذا كان الجواب أنه يجب أن لا نفترض أن المستقبل مثل الماضي، وأن سعيّد لن يكون مثل السيسي (أو القذافي بالأحرى) ألا نكون قد تجاهلنا كل المعرفة الإنسانية السابقة، في ما يخص النتائج المروّعة لتدخل الجيش في السياسة (ظريف أن الرئيس التونسي لم يشكر الجيش لدعمه لحركته، بل لأنه «لم يتدخل في السياسة») ولتركز السلطات في يدي شخص واحد، ولسياق عربيّ وإقليمي وعالمي في هذا الموضوع؟
لكن، إذا احتسبنا مصائبنا الكبيرة مع الجيوش والزعماء المطلقين، ألا نبخس سعيّد حقّه، وهو الشخص الذي بنى تاريخه على التواضع والتقشف والانضباط في العمل والدقة في المواعيد، ولماذا لا نؤمن، كما فعل الكاتب التونسي صالح العبيدي، في مقالة له في «القدس العربي» مؤخرا، بأن سعيّد ينفذ «مشروع دولة القانون»؟
أقترح، ببساطة، قلب قصة ديك الحبش، التي يسخر فيها برتراند راسل من العقلانيين.
فلنرفض استنتاج أن الجيش التونسي سيكرر ما فعلته جيوش العرب كلها ببلادها، ولنرفض أيضا أن يكون سعيّد طبعة أخرى من القذافي، الذي كان فعلا يؤمن، في بداية انقلابه العسكري، أنه سيحوّل بلاده إلى جنّة، ولنرفض أيضا مقارنته بجمال عبد الناصر، الذي كان كان يحمل مشروعا نهضويا لبلاده فعلا.
المشكلة الوحيدة، أننا، خلال انتظارنا المعجزات التي سيبتكرها سعيّد لحلّ كوارث الاقتصاد والسياسة، وتسييد «مشروع دولة القانون» وإدخال تونس في الحداثة الرقميّة، سنكون قد شجعنا ديكتاتورية تتشكّل أمام عيوننا، وبلادا تضيع، وآمالا بالاستثناء الديمقراطي التونسي، كعتلة لنشر ذلك النموذج الذي يباد أمام عيوننا، وسنكون مثل ديك حبش تجريبي هذه المرّة!
*القدس العربي